والتخلص عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالبا بالمخالطة: كالغيبة والرياء وسائر آفات اللسان ومسارقة الطبع الأعمال الخفية، والأخلاق الردية من الناس والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاستخلاص من الفتن والخصومات وأخطارها أو من شر الناس وإيذائهم قولا وفعلا وقطع طمعه عن الناس وقطع طمعهم عنه، والخلاص من مشاهدة الظلمة، والفسقة والجهال والثقلاء والحمقى، ومقاسات أخلاقهم.
ونظر الآخرين - أعني القائلين بتفضيل المخالطة على العزلة - إلى إطلاق الظواهر الواردة في مدح المخالطة والمؤالفة والمؤانسة وإلى فوائدها، أما ما ورد في مدحها، كقول النبي (ص): (المؤمن ألف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف). وقوله (ص): (من فارق الجماعة مات ميتة الجاهلية) وكالأخبار الواردة في ذم الهجرة عن الأخوان، وقوله (ص): (إياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد).
وأما فوائد المخالطة: كالتعليم والتعلم وكسب الأخلاق الفاضلة من مجالسة المتصفين بها واستماع المواعظ والنصائح ونيل الثواب بحضور الجمعة والجماعة والجنازة وعيادة المرضى وزيارة الأخوان وقضاء حوائج المحتاجين ورفع الظلم عن المظلومين وإدخال السرور على المؤمنين والاستيناس بالأخوان وبأهل الورع والعبادة والتقوى وهو يروح القلب ويهيج داعية النشاط في العبادة وإيصال النفع إلى المسلمين بالمال والجاه واللسان واستفادة مزيد الأجر والثواب بتحصيل المعاش والكد على العيال وارتياض النفس بمقاساة الناس في تحمل أذاهم، وكسر النفس وشهواتها وإدراك صفة التواضع لتوقفه على معاشرة الناس ومخالطتهم وعدم حصوله في الوحدة، واستفادة التجارب والكياسة في مصالح الدنيا والدين فإنها لا تحصل إلا من مخالطة الخلق ومشاهدة مجاري أحوالهم. هذه هي فوائد كل من العزلة والمخالطة، وفوائد كل منهما مفاسد وغوائل للآخر. وأنت - بعد ما عرفت فوائد كل منهما وغوائله - تعلم أن الحكم بترجيح أحدهما على الآخر على الإطلاق خطأ. كيف يجوز أن يقال: أن العزلة أفضل لشخص جاهل لم يتعلم شيئا من أصوله وفروعه، ولم يقرع سمعه علم الأخلاق ولم يميز بين فضائل الصفات ورذائلها