من الحق هنا هو الحق الواقعي الذي كان معلوما حقيقته عند الحاكم والمحكوم عليه معا وبعبارة أخرى كان الطريق إليه اعتقاد الحاكم والمحكوم عليه لا ما كان حقا عند الحاكم باطلا عند المحكوم عليه الدليل على ما قلنا مع أن مقتضى القاعدة هو مراعاة اعتقاد الحاكم فقط حيث إن الطريق إلى متعلق الخطاب هو اعتقاد من خوطب به أما انصراف الآيات إلى ذلك وظهورها فيما إذا كانت حقيقة المحكوم به معلومة محققة معروفة عند الحاكم والمحكوم عليه فتأمل أو انه لو لم يكن المراد ذلك بل كان المراد ظاهره أي الحق عند الحاكم لما وجب قبوله على المحكوم عليه حيث إنه مخاطب أيضا بعدم قبول الحكم الباطل وحكم الجاهلية والشيطان والمفروض انه بعدما كان اعتقاده مخالفا لاعتقاد الحاكم يعتقد كون حكمه باطلا يجب رده فلا بد من أن يكون المراد من الحق في المقام هو ما ثبت حقيته عند الطرفين أي ما كان مقتضى تكليف المحكوم عليه أيضا فإن شئت قلت إنه كما يجب على الحكام الحكم بالحق ويكون الطريق لهم إليه اعتقادهم كذلك يجب على غيرهم الالتزام بالحكم بالحق وعدم قبول ما كان باطلا ومن المعلوم ان الطريق إلى احراز الحق في هذا الخطاب اعتقاد المترافعين فإنهم مأمورون بالرجوع إلى من كان عارفا بأحكام الله وعالما بها ولا يتنجز هذا الخطاب في حقهم إلا بعد علمهم بكون المرجع حقا.
فان قلت إنه لا داعي إلى صرف الآيات عن ظاهرها بعدما كانت قضية ظاهرها هي كفاية الحقية عند الحاكم نظرا إلى القاعدة المذكورة وما ذكر من أن الداعي إليه هو لزوم التعارض فممنوع فإنه بعدما وجب على الحاكم الحكم بالحق عنده لزم قبوله على المحكوم عليه وإلا لزم لغويته وهذا باب واسع يدخلونه في كثير من المقامات كما ذكروه في آية الكتمان والنفر وغيرهما.
قلت ما ذكر من أنه لو وجب على شخص بيان شئ للغير لوجب على الغير قبوله وإلا لزم اللغوية فإنما هو فيما لم يجب على هذا الغير عدم قبول ما لم يكن حقا عنده وإلا لوقع التعارض فكما أنت تقول إن وجوب الالزام بالحق علي يدل على وجوب الالتزام لما ذكر من اللغوية فنحن نقول أيضا ان وجوب رد الباطل أيضا علينا الذي طريق ثبوته اعتقادنا يدل على قبول قولنا وإلا لزم اللغوية فتأمل.
فان قلت هب ان المراد من الحق في المقام هو ما ثبت حقيقته لكل من الحاكم والمحكوم لكنا نثبت حقية المحكوم به بأدلة البينة والايمان.
قلت أولا إن ظاهر الآيات هو الحق في الحكم الكلي لا الموضوع الخارجي وبعبارة أخرى المراد من الآيات الالزام بحكم الله في مقابل حكم الجاهلية فأدلة البينة غريبة (عرية خ) عن المقام حيث إن الحكم بالبينة والايمان إنما هو في الموضوعات الخارجية دون الأحكام الكلية والمراد من الآيات هو الحكم بالحق في الشبهة الحكمية أي الحكم بما أنزل الله وجاء به ومعلوم ان ملكية زيد وعدمها التي هي مدلول البينة لم يكن مما أنزل الله به.
فان قلت: إن وجوب الحكم بمقتضى البينة أيضا حكم كلي قد ثبتت حقيته بأدلة حجيتها والحكم بخلاف مقتضاها حكم باطل فكيف يقال بعدم تصور الحقية في الحكم الكلي بالنظر إلى البينة.
قلت قد التبس عليك الامر فإنه فرق واضح بين كون الحكم في الواقعة حقا الذي هو المحكوم به للحاكم وبين كون أصل حكمه بمقتضى البينة الذي هو فعل الحاكم حقا والذي ينفع في المقام إنما هو الأول دون الثاني كما لا يخفى وثانيا ان المراد من الحق في المقام هو ما ثبت حقيته مع قطع النظر عن حكم الحاكم وأما ما ثبت حقيته بملاحظة حكم الحاكم من جهة قيام البينة فليس مشمولا للآيات كما لا يخفى فالاستدلال بما دل على حجية البينة في مقام القضاء موهون جدا مضافا إلى ما سيجئ من عدم عموم وإطلاق له بحيث يشمل المجتهد والمقلد.