وكونها حكما أوليا للأشياء العارضة عليها كالحرمة مسلم لكنه لا يمنع من التفصيل الذي ذكرنا بينهما وكذا بين الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة لكون مناط التفصيل والفرق بينهما من جهة أخرى بيان ذلك أن - الحرمة إنما تعرض موردها من جهة صفة وجودية فيه مقتضية لها فالمقتضي لها إنما هو نفس موردها مع قطع النظر عن مدخلية شئ آخر فيه وهذه بخلاف الإباحة مثلا فإنها إنما تعرض موردها بملاحظة عدم وجود صفة تقتضي تعيين أحد طرفي موردها من الفعل والترك فالتسوية الملحوظة في الإباحة إنما هي باعتبار أمر عدمي وهو عدم عروض ما يقتضي ترجيح الفعل أو الترك.
وهكذا الكلام في الاستحباب والكراهة أيضا فإنه عروض الاستحباب على الفعل إنما هو باعتبار عدم وجود صفة في موردها تقتضي المنع من الترك كما هي موجودة في مورد الوجوب وكذا الكراهة إنما تعرض موردها باعتبار عدم وجود صفة فيه تقتضي المنع من فعله كما هي موجودة في الحرمة فالاحكام الثلاثة إنما تكون فعليتها باعتبار عدم عروض ما يقتضي تعيين أحد طرفي موردها من الفعل والترك وهذا بخلاف الوجوب والحرمة فإن عروضهما للمورد باعتبار وجود صفة فيه مقتضية لهما وهذا الذي ذكرنا في الأحكام الثلاثة ليس مختصا بها بل يجري في غيرها كما في الوجوب التخييري مثلا فإن عروضه لمورده أيضا إنما هو باعتبار أمر عدمي وهو عدم وجود صفة فيه تقتضي تعيين أحد طرفي الفعل فحينئذ إذا وجد سبب يقتضي تعيين أحد من طرفي الفعل أو الترك في مورد الإباحة مثلا أثر تأثيره لكون المحل قابلا لعروض ما يقتضي التعيين وليست الإباحة مزاحمة له فإن عروضها له إنما هو باعتبار عدم صفة في نفسه تقتضي التعيين وإذا وجد في مورد الحرمة مثلا لا يؤثر فيه شيئا لعدم قابليته بحسب الذات لعروض ما يقتضي خلاف الحرمة.
فإن قلت فعلى ما ذكرت إذا ورد دليل دال على الإباحة مثلا في مورد وورد دليل آخر فيه يقتضي - الحرمة مثلا لا بد من أن يحكم بعدم التعارض بينهما وتقديم دليل الحرمة لحكومته بالنسبة إلى دليل الإباحة ومن المعلوم ضرورة عند كل من له أدنى دراية بالأصول والفقه ووقوع التعارض بينهما.
قلت إن ورد دليل يقتضي ان الفعل بذاته يقتضي الوجوب أو الحرمة وانهما من الاحكام العارضة للفعل أولا وبالذات فلا محالة يعارض دليل الإباحة لأنه يدل على أن الفعل بالذات ما يقتضي شيئا فهو مناف لما يدل على كونه بحسب الذات مقتضيا للوجوب أو الحرمة وإن ورد دليل يقتضي ان السبب الخارجي يقتضي الوجوب أو الحرمة في الفعل فلا تعارض له مع ما يدل على أن الفعل بالنظر إلى ذاته لا يقتضي أحدهما وهذا بخلاف ما إذا ورد هذا الدليل في مقابل ما يدل على حرمة الفعل وكونه بالذات غير قابلة لغير التحريم نعم لو ورد دليل يقتضي ان الفعل بالذات يقتضي الوجوب فلا محالة يعارض ما دل على أنه يقتضي الحرمة فإن كان أخص من دليل الحرمة يخصصه وينوع الفعل على نوعين وإن لم يكن أخصية بينهما فيقع التعارض ويرجع إلى المرجحات الخارجية.
فإن قلت انك كما تأخذ بعموم قوله الخمر حرام وتحكم بأن كل فرد من أفراد الخمر علة تامة لاقتضاء - الحرمة فتمنع من عروض الوجوب لفرد منه من جهة العارض لعدم قابلية المحل لتأثيره فيه كذلك نحن نأخذ بعموم قوله يجب الوفاء بكل نذر ونحكم من جهة الملازمة بأن كل مورد قابل للوفاء بالنذر فيه وإلا لما أمر بعموم الوفاء حسبما هو قضية سلوك المحققين في قوله أوفوا بالعقود حيث إنهم يستدلون بعموم وجوب الوفاء على صحة كل عقد لأنه لو كان فاسدا لم يأمر به الشارع بل هذا مقتضى سلوكهم في كثير من العمومات.