ابن عرفة ان أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم. فان ذلك يرشدنا إلى أن الواضعين أو المبتدئين بالوضع من غيرهم لا منهم. وبعد فلو صح أن الشيعة وضعت شيئا في الفضائل فما أخفي منها عداوة وحسدا شئ كثير وما وضع في فضائل غيره أكثر وأكثر.
وذكر (1) كلاما طويلا حاصله انه بعد انقطاع الوحي واتساع المملكة الاسلامية واجه المسلمون مسائل كثيرة في كل شأن من شؤون الحياة واحتاجوا إلى تشريع لم يكونوا يحتاجون إليه وهم في جزيرة العرب إلى أن قال وأحوال في الزواج لم يكن يعرفها العرب وأنواع في طريقة التقاضي لم يكن لهم بها عهد وجنايات ترتكب لم يرتكبها العرب في حياتهم البسيطة ولم يدع أحد ان القرآن والسنة الصحيحة نصا في المسائل الجزئية على كل ما كان وما هو كائن فنتج عن هذا إن كان أصل آخر من أصول التشريع وهو الرأي الذي نظم بعد وسمي بالقياس.
ونقول: لو سلمنا ان الكتاب والسنة لم ينصا على جميع جزئيات المسائل ففي الكتاب والسنة وحكم العقل القطعي والاجماع قواعد كلية يمكن ارجاع جميع تلك الجزئيات إليها مثل أصل الإباحة الثابت بقبح العقاب بلا بيان وبقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فيعلم منه حكم كل ما شك في وجوبه أو تحريمه مما لا ضرر فيه. ومثل الناس مسلطون على أموالهم. لا يحل مال امرئ الا عن طيب نفسه إلى غير ذلك من القواعد الثابتة في الشرع التي يمكن ارجاع جميع الجزئيات إليها ولذلك لما اعترض الإمام أبو حنيفة على محمد بن النعمان الأحول المعروف بمؤمن الطاق بأنكم حيث لا تعملون بالقياس تبقون متحيرين في بعض الفروع فلو خرج بعير من البحر ما تصنعون به؟ قال: إن كان له فلس أكلناه وإلا فلا سواء أ كان بعيرا أم ناقة.
قال: (2) جرى على هذا كثير من الصحابة فكانوا يستعلمون رأيهم حيث لا نص كما جرى يوم السقيفة فالمحضر الذي ذكره المؤرخون لاجتماع السقيفة يدلنا على كيفية استعمال رأيهم وتقليب الأمر على وجهه.
ونقول: أولا بعد أن نعتقد أن الصحابة يجوز عليهم الخطأ فمع تسليم أنهم عملوا بآرائهم ليس لنا أن نقلدهم ولم يقم دليل على جواز تقليدهم فليس لنا العمل بالرأي لكون بعض الصحابة عمل به سواء أ كان من نوع القياس أم لا.
ثانيا إن الذي جرى يوم السقيفة لم يكن من نوع القياس ولا علاقة له بالقياس كما هو ظاهر.
ثالثا النبي الذي لم يترك صغيرا ولا جليلا من أحكام الشرع إلا بينه في العبادات والمعاملات والسياسيات والأخلاقيات والاجتماعيات والحدود والديات حتى بين حكم من يقتل حيوانا في حال الاحرام وكيف يجب أن يدخل الولد على أبيه لا يمكن أن يهمل أمرا هو أهم أمور الاسلام وهو الخلافة ويكله إلى آراء الناس المختلفة المتضاربة المتأثرة بالشهوات وحب الذات.
رابعا إن الذي جرى يوم السقيفة لم يدلنا على أنهم استعملوا رأيهم بل كانت هناك أحزاب ثلاثة كل يطلب الامارة لنفسه كما مر بيانه فيما مضى ثم تغلب أحد الثلاثة على الآخرين وتهددوا من تخلف بالقتل كما جرى لسعد أو بالتحريق عليه كما جرى لعلي فأين هو الرأي والقياس؟
خامسا القياس لم يستطع مثبتوه أن يقيموا عليه دليلا مقنعا كما بين في الأصول.
قال: (3) في مسالة الجد مع الإخوة أن ابن عباس قال الجد يحجبهم كالأب وقال علي وعمر يرث معهم.
ونقول: إن كانوا قالوا ذلك بآرائهم فليس لهم ذلك لأن الدين يكون بالوحي لا بالرأي وعندنا أن النبي لا يقول برأيه بل بما أوحي إليه فكيف بالصحابي، والمروي عن أهل البيت في ذلك أن الجد كالأخ وقد رووه عن جدهم الرسول ص ولم يقولوه بآرائهم.
وقال أيضا في مسالة من ماتت عن زوج وأبوين: أعطى زيد بن ثابت الأم ثلث ما بقي فقال ابن عباس أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي فقال زيد أقول برأيي وتقول برأيك.
ونقول في هذه المسألة للزوج النصف وللأم الثلث والباقي وهو السدس للأب وقول زيد أن للأم ثلث النصف وللأب الثلثين مردود عليه ولذلك قال له ابن عباس أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي لأن القرآن دال على أنه ثلث الأصل فهو لم يقل برأيه وإن كان زيد قال أقول برأيي فليس له ذلك.
واستشهد بقول عمر بن عبد العزيز لعياض قاضي مصر حين كتب إليه يسأله عن مسالة فاجابه لم يبلغني فيه شئ فاقض فيه برأيك.
ونقول: إن كان أراد بالقضاء برأيه الاستنباط من أدلة الشرع وإلا فهو مخطئ.
وقال: الأمثلة الواردة في ذلك كثيرة جدا.
ونقول: الحق لا يثبت بكثرة الأمثلة.
وقال: (4) والمتتبع يرى أنهم كانوا يستعملون كلمة الرأي بالمعنى الذي نفهمه الآن من كلمة العدالة وبعبارة أخرى ما يرشد الذوق السليم مما في الأمر من عدل وظلم وفسره ابن القيم بأنه ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب ثم استشهد بما روي أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث الجد والإخوة قال زيد وكان رأيي أن الجد أولى فضربت له مثلا بشجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعب في ذلك خوطان ألا ترى أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه من الأصل وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الأخوة.
ونقول سواء أ كانوا يستعملون الرأي في معنى كلمة العدالة أو غيرها أم لا فالرأي ليس من أدلة الأحكام الشرعية والعدالة لا تكون بالحكم بالرأي الذي يخطئ ويصيب بل ذلك عين الظلم والأحكام لا تدرك بالأذواق والعدل الحكم بما حكم الله والظلم الحكم بخلافه والذوق ليس معبرا عن إرادة الله والقلب في الأحكام الشرعية أعمى إلا من طريق الدليل ولا يفيده الفكر والتأمل إلا في تحصيل الدليل لا في الأخذ بالرأي.
ومعرفة وجه الصواب لا تكون إلا بالنظر في الدليل من وجوهه الخاصة لا