الخليفة من الفتن ما ليس بخاف على أحد واستغل قوم قتل الخليفة لنقض بيعة علي فألصقوا به قتله وحصلت حرب الجمل وحرب صفين وأوغرت الصدور وثار ثائر الأضغان وانتهى حرب صفين بالتحكيم وفعل الحكمان ما هو معروف مما زاد إيغار الصدور والنفرة من بني أمية واتساع شقة الخلاف بين المسلمين وسن معاوية سب علي على المنابر في الأعياد والجمعات وبقي ذلك مدة ملك بني أمية إلا في عهد عمر بن عبد العزيز ورويت الروايات المكذوبة وبذلت عليها الأموال الجليلة كما مر في البحث الثالث وحدثت فتنة الخوارج وقتل علي وبويع الحسن ع وحورب فخانه من خانه فاضطر إلى الصلح الذي لم يوف له بشئ من شروطه ثم مات مسموما بدسيسة خصمه ليبايع لابنه وولى زيادا العراق فظلم شيعة أهل البيت وقتلهم وتلا ذلك قتل الحسين ع من قبل يزيد وحمل ذريته ونسائه كالسبايا مما أثار الحفائظ على بني أمية زيادة على ذي قبل واستمرت الخلافة في الأمويين ونحي عنها الهاشميون مع أنهم يرون أنفسهم ويراهم الناس أحق بها وصدر من يزيد التهتك في الدين مما أوجب وقعة الحرة واستباحة المدينة ثلاثا من عسكر الشام وقتل من لم يبايع على أنه عبد رق ليزيد فازدادت نفرة الناس من بني أمية وميلهم لبني هاشم وقام في الحجاز ابن الزبير وأساء إلى العلويين وقام التوابون يطلبون بثار الحسين ع فقتلوا وتلاهم المختار فملك الكوفة وقتل قتلة الحسين ع وقتل ابن زياد بيد ابن الأشتر وصدرت قبائح اخر من ملوك بني أمية مثل ما صدر من يزيد صاحب حبابة ومثل قتلهم لمن فتح لهم الأندلس وإلقاء رأسه في حجر أبيه وتسليطهم الحجاج على أهل العراق وإسرافه في سفك الدماء وإحراقه الكعبة المشرفة إلى غير ذلك مما حفظه التاريخ وكان علي وذريته في كل هذه الأدوار محافظين على نواميس الشرع والعدل والاحسان حتى إلى أعدائهم وعلى الزهد والورع فمالت الناس إليهم إلا حسودا أو معاندا ومالت عن سواهم فخافهم ملوك وقتهم على ملكهم فبالغوا في إقصائهم وإيصال الأذى إليهم وإلى أتباعهم وجاءت الدولة العباسية فكانت الحال فيها مثلها في أشد خوفا من العلويين على ملكهم من الأمويين فبنوا على ما أسسه الأمويون وزادوا وبالغوا في عداوة أهل البيت وسجنوا بعضهم وقتلوه بالسم وشردوهم عن أوطانهم مرارا وتهددوهم بالقتل وجاءوا بهم من الحجاز إلى العراق وأسكنوهم سامراء خوفا منهم وجعلوا عليهم الجواسيس والرقباء ونفروا الناس منهم ومن شيعتهم ما استطاعوا ونصروا المذاهب المخالفة لمذهبهم وأخافوا المنتسبين إليهم فاضطر من ينتسب إليهم إلى كتمان مذهبه واستخدموا الدين في تنفيذ سياستهم وأثار الأمويون والعباسيون ثائر التعصبات الدينية بين المسلمين ليستغلوها وعظموا بين الناس القول بتقديم علي في الخلافة وساعدهم على ذلك العلماء الطالبون للدنيا فبذلوا لهم الأموال ورووا لهم فيه الأحاديث المختلفة خصوصا في أول عهد الأمويين كما سبق ميلا إلى الدنيا والناس على دين ملوكهم وجعلوا القول بذلك موبقة وفسوقا وجاء من بعدهم ممن لم يعلموا حقيقة الحال فرأوا أحاديث مروية وفتاوى منقولة فاحسنوا الظن برواتها ونقلتها فأودعوها الكتب وجاء اللاحق فوجدها مودعة في كتب تنسب لعظماء الرجال فلم يستطع إلا قبولها فانتشرت بين الناس وتداولها الخاصة وعلموها العامة و تحدثوا بها في مجتمعاتهم وأملوها في حلقات دروسهم ومضت على ذلك الأعوام والأحقاب وتناولته السنة العامة والخاصة وزاد العوام فيه وبعض الخواص موافقة لهوى العامة سخافات كثيرة لا يليق ذكرها حتى أصبح ذلك عقيدة راسخة وحتى تربى الناس على عداوة شيعة أهل البيت ورأوها دينا غير ملتفتين إلى أن أساس ذلك السياسة من الملوك للخوف على ملكهم، والتقليد أمر قريب إلى طباع البشر أنكر بسببه الخالق وعبدت الأحجار والأشجار وكانت حجج أمم الأنبياء على الرسل قولهم:
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. أ تنهانا عما كان يعبد آباؤنا. وغير ذلك مما حكي عنهم في القرآن الكريم وكلهم أصحاب عقول وألباب ولكن التقليد داء عضال، وساعد على ذلك خلو جملة من الأقطار من الشيعة المحامين عن جوزتهم أو قلتهم وعدم تمكنهم من المجاهرة بحجتهم ومبادرة خصومهم إلى التكفير والأذى وسوء القول فقالوا في خلواتهم وجلواتهم ما شاؤوا وامنوا عادية من يرد عليهم إلا قليلا خصوصا إن كان السيف والسلطان في يدهم، والمطالع للكتب يرى من ذلك شيئا غير قليل. كل ذلك يوصلنا إلى نتيجة ملموسة هي أن السياسة وخوف الملوك الحاملين لقب امارة المؤمنين على ملكهم من أهل البيت بعث على التنفير منهم ومن أتباعهم ورمي أتباعهم بالعظائم وهجر مذهبهم حتى انتشر ذلك في الناس وأصبح عقيدة راسخة ومع ذلك فلم يقصر علماء الشيعة في كل عصر وزمان في رد الشبهات عن مذهبهم والدفاع عن حوزتهم بالقلب واللسان وكتبهم في ذلك ومباحثاتهم تنبو عن الحصر ومناظرات هشام بن الحكم ومؤمن الطاق في عصر الرشيد ومناظرات علي بن ميثم وابن قبة والمفيد لشيوخ المعتزلة في بغداد مشهورة معروفة وغيرهم مما لا يحصى والشافي للمرتضى وكتب العلامة الحلي والبحار المغرقة للصواعق المحرقة وغيرها كثيرة حتى أنه يوجد في أشعار شعرائهم أمثال الكميت والسيد الحميري وأبي تمام الطائي والعبدي وأبي فراس الحمداني ومهيار الديلمي والصفي الحلي وغيرهم الشئ الكثير من ذلك. وقد استمر ذلك الذي ذكرناه إلى هذا العصر بل زاد عن الأعصار السالفة التي كانت علماؤها أوسع اطلاعا وأغزر علما مع أن هذا العصر قد كثرت فيه المطبوعات وانتشرت الكتب وأمكن لكل أحد معرفة العقائد بحقائقها ومع ذلك فما رسخ في الأذهان ونشر في الكتب يصد الكثيرين عن النظر بعين الإنصاف ومعرفة الحقائق كما هي حتى أن بعض من ينسب إلى العلم قام في بعض المدن السورية هذه الأيام بدعاية ضد الشيعة ونسب إليهم أمورا لا صحة لها ولقنها تلاميذه وجعلوا يبثونها بين عوام الناس مما ساء عقلاء المسلمين ورواد الاصلاح منهم وكادت أن تقع بسبب ذلك الفتن لولا أن تداركها العقلاء، هذا والبلاد تحت النفوذ الأجنبي ولا يملك المسلمون من أمرهم شيئا. ولا نزال نسمع ونقرأ في كتب بعض الإخوان المصريين الباحثين من أهل العصر أمثال الرافعي وأحمد أمين وغيرهما ألفاظ الذم والنقد والرمي بالعظائم في حق الشيعة بدون مسوع ولا مبرر بل تقليدا لما قرأوه وسمعوه ورسخ في أذهانهم وتشويها لوجه التاريخ وسنشير إلى بعضه في آخر البحث فظهر لك أن ما يقال عن الشيعة من النسب الباطلة ليس سببه إلا السياسة.
وإذا كانت السياسة هي التي شتتت كلمة المسلمين في الأزمنة السالفة فلتكن السياسة اليوم حاملة للمسلمين على جمع الكلمة والانضمام والاتحاد، ولكن غفلة الكثيرين عن أن هذه المنابذة كان أصلها السياسة وظنهم أن ذلك من الدين لما نشأوا وتربوا عليه يصدهم عن معرفة الحقيقة ونبذ التقليد ونرجو أن يكون بياننا هذا نبراسا لهم إلى معرفة الصواب.
والذي يدلنا على أن المنابذة للشيعة أصلها السياسة وأن الدين