معتمرا مكان عمرته التي صدوه عنها ولذلك سميت عمرة القضاء ويقال عمرة القصاص وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه إلا من مات أو قتل وخرج معهم غيرهم عمارا فكانوا ألفين وحمل معه السلاح الدروع والبيض والرماح وقاد مائة فرس وأحرم من ذي الحليفة هو وأصحابه وساق ستين بدنة وقدم الخيل أمامه عليها محمد بن مسلمة وعلى السلاح بشير بن سعد فإنهم لم يلبسوه فقيل يا رسول الله حملت السلاح وقد شرطوا علينا أن لا ندخلها عليهم إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب فقال لا ندخل عليهم الحرم بالسلاح ولكن يكون قريبا منا فلما سمع به أهل مكة خرج عنه كبراؤهم إلى رؤوس الجبال حتى لا يروه يطوف بالبيت، وتحدثت قريش بينها أن محمدا وأصحابه في عسرة وشدة وصفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه والى أصحابه، فقال ص: رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة فطاف بالبيت وأتم عمرته وأقام بمكة ثلاثا، وكان عمه العباس قد زوجه ميمونة بنت الحارث أخت زوجته أم الفضل وأصدقها عنه أربعمائة درهم فأرسلت إليه قريش في اليوم الثالث قد انقضى اجلك فاخرج عنا فقال وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه قالوا لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا، كأنه أراد أن يكذب ما بلغهم أنه في عسرة وان يتألفهم فخرج واخذ معه عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب وأمها سلمى بنت عميس فكانت عمارة عند جعفر من أجل أن خالتها أسماء بنت عميس عنده ودخل المدينة في ذي الحجة فأنزل الله تعالى: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون الآية.
غزوة مؤونة في جمادي الأولى سنة ثمان من الهجرة بعد خيبر بشهرين وحقها أن تسمى سرية كما في طبقات ابن سعد لأن الغزوة عندهم ما غزاها رسول الله ص بنفسه والسرية بخلافها. ومؤتة بضم الميم وهمزة ساكنة موضع معروف عند الكرك بأدنى البلقاء وكان سببها ان رسول الله ص بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى هرقل ملك الروم بالشام فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني من امراء قيصر على الشام فقال أين تريد لعلك من رسل محمد؟ قال نعم، فاوثقه رباطا ثم قدمه فضرب عنقه ولم يقتل لرسول الله ص رسول غيره فلما بلغه ذلك اشتد الأمر عليه فجهز ثلاثة آلاف من أصحابه وبعثهم إلى بلاد الروم وأمر عليهم زيد بن حارثة فان أصيب فجعفر بن أبي طالب فان أصيب فعبد الله بن رواحة هكذا ذكر أكثر المحدثين ولكن في رواية أبان بن عثمان عن الصادق ع أنه استعمل عليهم جعفرا فان قتل فزيد فان قتل فابن رواحة. قال ابن أبي الحديد اتفق المحدثون على أن زيد بن حارثة كان هو الأمير الأول وأنكرت الشيعة ذلك وقالوا كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأول فان قتل فزيد بن حارثة فان قتل فعبد الله بن رواحة ورووا في ذلك روايات وقد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن إسحاق في كتابه المغازي ما يشهد لقولهم فمن ذلك ما رواه عن حسان بن ثابت:
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا * بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر - - وزيد وعبد الله حين تتابعوا * جميعا وأسياف المنية تقطر - - غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم * إلى الموت ميمون النقيبة أزهر - - أغر كضوء البدر من آل هاشم * أبي إذا سيم الدنية اصعر - - فطاعن حتى مال غير موسد * بمعترك فيه القنا متكسر - ومنها قول كعب بن مالك الأنصاري من قصيدة:
- هدت العيون ودمع عينك يهمل * سحا كما وكف الرباب المسبل - - وجدا على النفر الذين تتابعوا * قتلى بمؤتة أسندوا لم ينقلوا - - ساروا أمام المسلمين كأنهم * طود يقودهم الهزبر المشبل - - إذ يهتدون بجعفر ولواؤه * قدام أولهم ونعم الأول - - حتى تقوضت الصفوف وجعفر * حيث التقى جمع الغواة مجدل - وأمرهم النبي ص أن يأتوا مقتل الحارث فيدعوهم إلى الاسلام فان أجابوا وإلا استعانوا الله عليهم وودعهم رسول الله ص وأوصاهم بتقوى الله وقال اغزوا باسم الله فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم ولا تقتلوا امرأة ولا صغيرا ولا كبيرا فانيا ولا تقطعوا شجرة ولا تهدموا بناء فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم فجمعوا لهم وقام فيهم شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف وقدم الطلائع أمامه فساروا حتى نزلوا معان من أرض الشام فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم ومائة ألف من العرب المتنصرة من بكر ولخم وجذام وغيرهم فاقاموا بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم هل يبعثون لرسول الله ص ويخبرونه بعدد عدوهم فاما أن يمدهم أو يأمرهم بأمر فيمضوا له فشجعهم عبد الله بن رواحة فقال يا قوم والله أن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة فقال الناس صدق والله ابن رواحة فمضوا للقتال وفي ذلك يقول ابن رواحة من أبيات:
- فرحنا والجياد مسومات * تنفس في مناخرها السموم - - أقامت ليلتين على معان * فاعقب بعد فترتها جموم - - فلا وأبي مآب لنأتينها * ولو كانت بها عرب وروم - - بذي لجب كان البيض فيه * إذا برزت قوانسها النجوم - فلما كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف وهي التي تنسب إليها السيوف المشرفية لأنها كانت تعمل بها وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة وعبأوا جيشهم ميمنة وميسرة والتقى الناس فاقتتلوا فقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم قاتل زيد بن حارثة براية رسول الله ص وقاتل المسلمون معه على صفوفهم حتى شاط في رماح القوم أي قتل طعنا بالرماح فاخذ الراية جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها وكان أول من عقر فرسه في الاسلام ثم قاتل فقطعت يمينه فاخذ الراية بيساره فقطعت يساره فاحتضن الراية وقاتل حتى قتل وقال رسول الله ص إن الله أبدله بهما جناحين يطير بهما في الجنة مع الملائكة فروي انه وجد ما بين صدره ومنكبيه وما اقبل منه تسعون جراحة ما بين ضربة وطعنة وقيل وجد في بدنه اثنتان وسبعون ضربة وطعنة وروي خمسون جراحة وقيل ضربه رومي فقطعه بنصفين فوجد في أحد نصفيه بضعة وثلاثون جرحا فاخذ الراية عبد الله بن رواحة ثم تقدم بها وهو يتردد بعض التردد ثم قال:
- أقسمت يا نفس لتنزلنه * طائعة أو فلتكرهنه - - إن اجلب الناس وشدوا لرنه * ما لي أراك تكرهين الجنة - - قد طالما قد كنت مطمئنة * هل أنت الا نطفة في شنه - وقال أيضا:
- يا نفس الا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت -