أدنيك ولا أقصيك وان أعلمك وان تعي وحق لك ان تعي فنزلت هذه الآية وتعيها أذن واعية.
التاسع عشر الزهد في الدنيا وانما يعرف زهد الزاهد فيها إذا كانت في يده ويزهد فيها لا إذا كانت زاهدة فيه. كان أكثر أكابر الصحابة في زمن عثمان وقبله قد درت عليهم اخلاف الدنيا من الفتوحات والعطاء من بيت المال فبنوا الدور وشيدوا القصور واختزنوا الأموال الكثيرة وخلفوها بعدهم. روى المسعودي انه في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال فكان لعثمان يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم وقيمة ضياعه في وادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار وخلف إبلا وخيلا كثيرة وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار وخلف ألف فرس وألف أمة وكانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم ومن ناحية السراة أكثر من ذلك وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفا وخلف زيد بن ثابت من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع. وبنى الزبير داره بالبصرة وبنى أيضا بمصر والكوفة والإسكندرية وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصصة الظاهر والباطن وخلف يعلى ابن منبه خمسين ألف دينار وعقارا وغير ذلك ما قيمته ثلثمائة ألف درهم اه ولكن ذكره المقداد معهم لمجرد بنائه داره وتجصيص ظاهرها وباطنها لا يخلو من حيف على المقداد فهل يريدون من المقداد ان يبقى في دار خربة سوداء مظلمة.
ولم يكن علي أقل نصيبا منهم في عطاء وغيره ثم جاءته الخلافة وصارت الدنيا كلها في يده عدا الشام ومع ذلك لم يخلف عند موته إلا ثمانمائة درهم لم يكن اختزنها وإنما أعدها لخادم يشتريها لأهله فمات قبل شرائها فأين ذهبت الأموال التي وصلت إلى يده وهو لم يصرفها في ماكل ولا ملبس ولا مركوب ولا شراء عبيد ولا إماء ولا بناء دار ولا اقتناء عقار.
مات ولم يضع لبنة على لبنة ولا تنعم بشئ من لذات الدنيا بل كان يلبس الخشن ويأكل الجشب ويعمل في ارضه فيستنبط منها العيون ثم يقفها في سبيل الله ويصرف ما يصل إلى يده من مال في الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وهو مع ذلك يريد من عماله في الأمصار ان يكونوا مثله أو متشبهين به على الأقل ويتفحص عن أحوالهم فيبلغه عن عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري انه دعي إلى مادبة فذهب إليها فيكتب إليه: بلغني ان بعض فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان وما ظننت انك تجيب إلى طعام قوم غنيهم مدعو وعائلهم مجفو. ومعنى هذا ان ابن حنيف يلزم ان لا يجيب دعوة أحد من وجوه البصرة فان من يدعو الوالي إلى مأدبته لا يدعو معه إلا الأغنياء ولا يدعو أحدا من الفقراء وما يصنع الفقراء في وليمة الوالي وهم لا يجالسهم الوالي والمدعوون معه من الأغنياء ولا يواكلونهم وكيف يفعلون ذلك وثياب الفقراء بالية وهيئاتهم رثة ينفرون منها ومن رؤيتها وإذا أرادوا ان يعطفوا على فقير منهم أرسلوا إليه شيئا من الزاد أو المال إلى بيته ولم تسمح لهم أنفسهم ان يجالسوهم على مائدتهم ثم يريد من ابن حنيف ان يقتدي به في زهده فيقول له: وان لكل مأموم إماما يقتدي به ويهتدي بنور علمه وان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه. ثم يرى أن ذلك غير ممكن فيقول له: إلا وانكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد، ثم يحلف بالله مؤكدا فيقول: فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا ولا ادخرت من غنائمها وفرا. ثم ويسوقه الألم من أمر فدك إلى ذكرها هنا وما علاقة فدك بالمقام ولكن المتألم من أمر يخطر بباله عند كل مناسبة فيقول: بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين. ومن الذي يريد ان يعترض عليك يا أمير المؤمنين بفدك ويقول لك انها كانت بيدك فكيف تقول انك لم تدخر شيئا من غنائم الدنيا حتى تجيبه انه لم يكن في يدك من جميع بقاع الأرض التي تحت السماء غير فدك. ومع أنه قادر على التنعم في ملاذ الدنيا فهو يتركه زهدا فيها ومواساة للفقراء فيقول: ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز ولكن هيهات ان يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالقرص ولا طمع له بالشبع. وهو القائل: والله لان أبيت على حسك السعدان مسهدا وأجر في الأغلال مصفدا أحب إلي من أن القى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد وغاصبا لشئ من الحطام وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلت ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لا تبقى.
وهو القائل: والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ولقد قال لي قائل ألا تنبذها عنك فقلت أعزب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى.
وفي أسد الغابة بسنده عن عمار بن ياسر سمعت رسول الله ص يقول لعلي بن أبي طالب يا علي إن الله عز وجل قد زينك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحب إليه منها الزهد في الدنيا فجعلك لا تنال من الدنيا شيئا ولا تنال الدنيا منك شيئا ووهب لك حب المساكين ورضوا بك إماما ورضيت بهم اتباعا فطوبى لمن أحبك وصدق فيك وويل لمن أبغضك وكذب عليك فاما الذين أحبوك وصدقوا فيك فهم جيرانك في دارك ورفقاؤك في قصرك واما الذين أبغضوك وكذبوا عليك فحق على الله ان يوقفهم موقف الكذابين يوم القيامة وقال ابن عبد البر في الاستيعاب قد ثبت عن الحسن بن علي من وجوه أنه قال لم يترك أبي إلا ثمانمائة درهم أو سبعمائة درهم فضلت من عطائه كان يعدها لخادم يشتريها لأهله، قال واما تقشفه في لباسه ومطعمه فأشهر من هذا كله ثم روى بسنده عن عبد الله بن أبي الهذيل قال رأيت عليا خرج وعليه قميص غليظ دارس إذا مد كم قميصه بلغ إلى الظفر وإذا أرسله صار إلى نصف الساعد وبسنده عن عطاء رأيت على علي قميص كرابيس غير غسيل وبسنده عن أبي الهذيل رأيت على علي بن أبي طالب قميصا رازيا إذا أرخى كمه بلغ أطراف أصابعه وإذا اطلقه صار إلى الرسغ وفي أسد الغابة بسنده عمن رأى على علي ع إزارا غليظا قال اشتريته بخمسة دراهم فمن أربحني فيه درهما بعته وبسنده عن أبي النوار بياع الكرابيس قال اتاني علي بن أبي طالب ومعه غلام له فاشترى مني قميصي كرابيس فقال لغلامه اختر أيهما شئت فاخذ أحدهما واخذ علي الآخر فلبسه ثم مد يده فقال اقطع الذي يفضل من قدر يدي فقطعته وكفه ولبسه وذهب وفي حلية الأولياء بسنده عن أبي سعيد