هذا الكلام فوق المنبر على حشد من ألوف الخلق وما يؤمنه أن يسأله سائل عن مسالة لا يكون عنده جوابها فيخجله فيها. لا يجرأ على هذا القول إلا من يكون واثقا من نفسه بان عنده جواب كل ما يسال عنه. وهل تنحصر المسألة في علم من العلوم أو ناحية من النواحي حتى يجرؤ أحد على هذا القول لا يكون مؤيدا بتأييد إلهي وواثقا من نفسه كل الوثوق بأنه لا يغيب عنه جواب مسالة مهما دقت وأشكلت ان هذا لمقام يقصر العقل عن الإحاطة به ويسال وهو على المنبر عن مسافة ما بين المشرق والمغرب فيجب بأنه مسيرة يوم للشمس. وهو جواب اقناعي أحسن ما يجاب به في مثل المقام. ويسال عما بين الحق والباطل فيقول مسافة أربع أصابع. الحق أن تقول رأيت بعيني والباطل أن تقول سمعت باذني. ويسال عن رجلين مع أحدهما خمسة أرغفة ومع الآخر ثلاثة فجلس معهما ثالث وأكلوا الأرغفة الثمانية وطرح إليهما الثالث ثمانية دراهم فيحكم بان لصاحب الثلاثة درهم واحد ولصاحب الخمسة سبعة دراهم لأن الأرغفة الثمانية أربعة وعشرون ثلثا لصاحب الثلاثة منها تسعة أثلاث أكل منها ثمانية وأكل الضيف واحدا ولصاحب الخمسة منها خمسة عشر ثلثا أكل منها ثمانية وأكل الضيف سبعة. فهذه المسألة لو أجاب عنها أمهر رجل في الحساب بعد طول الفكرة والروية وأصاب فيها لكان له الفخر. ويؤتى عمر بامرأة ولدت لستة أشهر فيهم برجمها فيقول له علي إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك أن الله تعالى يقول وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ويقول والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين فإذا كانت مدة الرضاع حولين كاملين والحمل والفصال ثلاثون شهرا كانت مدة الحمل فيها ستة أشهر فثبت الحكم بذلك وعمل به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنهم إلى يومنا هذا. ويؤتى عمر بمجنونة زنت فيأمر بجلدها فيقول له أن النبي قد رفع القلم عن المجنون حتى يفيق فيقول فرج الله عنك لقد كدت أهلك في جلدها. ويؤتى عمر بحامل قد زنت فيأمر برجمها فيقول له هب أن لك سبيلا عليها أي سبيل لك على ما في بطنها. احتط عليها تلد فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فاقم عليها الحد فيقول عمر لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن. ويجئ أبو الأسود الدئلي فيخبره بأنه سمع من يلحن في القرآن فيضع له أصول علم النحو في كلمات معروفة ويقول له انح هذا النحو فيزيد عليها أبو الأسود وتضبط لغة العرب بعلم النحو إلى اليوم.
شجاعته وإذا نظرنا إلى شجاعته وقد ضربت بها الأمثال وجدناه قد باشر الحرب وعمره عشرون سنة أو فوقها بقليل وقد أنسى ذكر من كان قبله ومحا اسم من يأتي بعده ووجدنا تفوقه فيها على جميع الخلق ملحقا بالضروريات يقبح بالانسان إطالة الكلام فيه وإكثار الشواهد عليه ومقاماته في الحرب تضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة. وكفى في ذلك أنه ما فر في موطن قط ولا ارتاع من كتيبه ولا بارز أحدا إلا قتله ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت إلى ثانية وكانت ضرباته وترا إذا علا قد وإذا اعترض قط ولا دعي إلى مبارزة فنكل وهذا كله من الأمور العجيبة التي لم تنفق لغير علي بن أبي طالب ويمكن أن توصف الشجاعة بأكثر من ذلك. وكان يقول ما بارزت أحدا إلا كنت أنا ونفسه عليه وكانت العرب تفتخر بوقوفها في مقابلته في الحرب. ويفتخر المفتخرون ورهطهم بأنه قاتلهم افتخر بذلك حيي بن أخطب سيد بني النضير فقال قتله شريف بيد شريف. وافتخرت به أخت عمرو بن عبد ود في شعرها الذي رثت به أخاها. ولما افتخر حسان بقتل عمرو بن عبد ود في شعر له رد عليه فتى من بني عامر فقال من أبيات:
- كذبتم وبيت الله لا تقتلوننا * ولكن بسيف الهاشميين فافخروا - - بسيف ابن عبد الله أحمد في الوغى * بكف علي نلتم ذاك فاقصروا - - علي الذي في الفخر طال بناؤه * فلا تكثروا الدعوى علينا فتحقروا - وكان يمدحه المشركون على قتله عظيما منهم ويجعلون ذلك فخرا لعلي ومع ذلك فمال هذا إلى الافتخار بأنه قاتله قال مسافع الجمحي في رثاء عمرو وقتل علي إياه من أبيات:
- فاذهب علي فما ظفرت بمثله * فخرا فلا لاقيت مثل المعضل - وقال هبيرة بن أبي وهب يرثي عمرا ويذكر قتل علي إياه من أبيات:
- فعنك علي لا أرى مثل موقف * وقفت على نجد المقدم كالفجل - - فما ظفرت كفاك فخرا بمثله * امنت به ما عشت من زلة النعل - وافتخر به سعيد بن العاص فقال: أما أنه ما كان يسرني أن يكون قاتل أبي غير ابن عمه علي بن أبي طالب إلى غير ذلك. وكان ينيمه أبوه وهو صبي أيام حصار الشعب في مرقد رسول الله ص فينام فيه مواجها للخطر طيبة بذلك نفسه. وظهرت شجاعته الفائقة في مبيته على الفراش ليلة الغار موطنا نفسه على الأخطار غير هياب ولا حزين والنفر من قريش محيطون بالدار ليفتكوا بمن في الفراش وظهرت شجاعته البالغة لما سار بالفواطم بعد الهجرة جهارا من مكة وليس معه إلا ابن أم أيمن وأبو واقد الليثي وهما لا يغنيان شيئا فلحقه ثمانية فرسان من قريش أمامهم جناح مولى حرب بن أمية فاهوى إليه جناح بالسيف وهو فارس وعلي راجل فحاد علي عن ضربته وضربه لما انحنى على كتفه فقطعه نصفين حتى وصلت الضربة إلى قربوس فرسه وانهزم الباقون.
وفي يوم بدر قتل الوليد بن عتبة وشرك في قتل عتبة وقتل جماعة من صناديد المشركين حتى روي أنه قتل نصف المقتولين أو أزيد من النصف بواحد وقتل باقي المسلمين مع الملائكة المسومين النصف الثاني.
وفي يوم أحد قتل أصحاب اللواء جميعهم على أصح الروايات وهم سبعة أو تسعة وانهزم بقتلهم المشركون ولولا مخالفة الرماة أمر رسول الله ص لتم النصر للمسلمين وجميع من قتل يوم أحد من المشركين ثمانية وعشرون قتل علي منهم ثمانية عشر. ثم لما انهزم المسلمون إلا قليلا منهم ثبت مع النبي ص فحامى عنه وكلما أقبل إليه قوم ندبه النبي إليهم فيفرقهم ويقتل فيهم حتى عجب منه جبرائيل وقال يا رسول الله أن هذه للمواساة ونادى لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.
وفي وقعة الخندق لما أقحم عمرو بن عبد ود وجماعة معه خيلهم وعبروا الخندق جاء علي ومعه نفر حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا خيلهم منها ولم يجسر على ذلك أحد غيره ولما طلب عمرو المبارزة جبن المسلمون كلهم وسكتوا كأنما على رؤوسهم الطير فجعل عمرو يؤنبهم ويوبخهم والنبي يقول من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة فلم يقم إليه أحد إلا علي فقال انا له يا رسول الله والنبي ص يقول له اقعد فإنه عمرو حتى فعل ذلك ثلاثا فقال له في الثالثة وإن كان عمرا فقتله وانهزم من معه فلحقهم علي وقتل بعضهم وانكسرت بذلك شوكة المشركين ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال بعلي.