برواية تسوع عند الناس وجادلوا عن رواتها ولكنهم لم يبلغوا بها مصنفها...
الخ اه.
فهذا نموذج من انصاف هؤلاء وتثبتهم وتخرجهم، هو يروي عن ابن سيرين بغير أصل ولا سند حكما عاما لا يقبل العقل صدقه وشهادة على النفي ويروي عمن يسميه العلامة المقبلي تصديقا لهذا الحكم بغير حجة غير التشجيع البارد بل بمجرد الهوى الذي خالط عقل المقبلي وقلبه ولحمه ودمه فضلا عن عروقه ومفاصله.
الشيعة لا ترسل ما ترويه إرسالا كما يقتضيه هذيان المقبلي ولا تقبل إلا ما أسنده ثقة عن ثقة وعدل عن عدل ضابط حتى يتصل بالامام ولا تزعم عدالة مائة ألف أو يزيدون ممن يجوز عليهم الذنب وشوهد منهم، وكتب رجالها شاهدة بذلك.
ليس مدار الصدق والكذب بالتسجيع بالعقل السليم والطريق القويم والصراط المستقيم وزمزم والحطيم فهذا سهل على كل أحد أن يثبته لنفسه.
أما أن نهج البلاغة قد صار عند الشيعة عديل كتاب الله فهذا كذب وافتراء بمجرد الهوى فالشيعة لا تعدل بكتاب الله شيئا ولا بكلام نبيه ص.
نهج البلاغة بعد كلام النبي ص فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق لا يرتاب فيه إلا من غطى الهوى على بصيرته. ليس نهج البلاغة مرجعا للأحكام الشرعية حتى نبحث عن أسانيده ونوصله إلى علي ص إنما هو منتخب من كلامه في المواعظ والنصائح وأنواع ما يعتمده الخطباء من مقاصدهم.
ولم يكن غرض جامعه إلا جمع قسم من الكلام السابق في ميدان الفصاحة والبلاغة على حد ما جمع غيره من كلام الفصحاء والبلغاء الجاهليين والاسلاميين الصحابة وغيرهم بسند وبغير سند ولم نركم تعترضون على أحد في نقله لخطبة أو كلام بدون سند وهو في الكتب يفوق الحد، إلا على نهج البلاغة، ليس هذا إلا لشئ في النفس مع أن جل ما فيه مروي بالأسانيد في الكتب المشهورة المتداولة.
إن جلاميد الصخور لتستحي لو كانت تعقل ان ينسب لها ما تفوه به هذا المسمى بالمقبلي ومع هذا يصفه الأثري بالعلامة.
إن نهج البلاغة مع صحة أسانيده في الكتب وجلالة قدر جامعه وعدالته ووثاقته لا يحتاج إلى شاهد على صحة نسبته إلى إمام الفصاحة والبلاغة بل له منه عليه شواهد.
ولا يكاد ينقضي عجبي من هؤلاء الذين قادهم الوهم إلى أن الشريف الرضي أنشأ نهج البلاغة أو بعضه لا كثيرا منه أو أكثره ونسبه إلى أمير المؤمنين ع مع اعترافهم بان عليا ع هو السابق في ميدان الفصاحة والبلاغة.
إن الحسناء الباهرة الحسن والجمال لا تحتاج إلى تبييض وجهها بالبودرة وتحمير شفتيها وتقويس حاجبيها وإنما تحتاجه القبيحة الوجه لتستر معائبها، والغني المثري لا يحتاج ان يدعي ملك ما ليس له ليعتقد الناس فيه الغنى إنما يحتاج ذلك قليل المال. ومن عنده من الأثاث والرياش ما يفوت الحصر لا يحتاج أن يستعير الطنافس من جاره ليفرشها في داره، وحاتم كريم العرب لا نحتاج في إثبات كرمه إلى أن ننسب إليه ما لم يفعله، فعلي ليس بحاجة إلى أن ينسب إليه الشريف الرضي ما ليس من كلامه وله الحظ الوافر من أفصح الكلام. ولو نسب كلام دون نهج البلاغة إلى من يقدسهم الأثري والمقبلي والمدبري لبذلوا النفس والنفيس في اثبات صحته وسبحوا بحمد من نسب إليه.
قلنا إن نهج البلاغة لا يحتاج إلى شاهد بل هو شاهد بنفسه لنفسه كما لا تحتاج الشمس إلى شاهد أنها الشمس.
ونذكر لك شاهدا بسيطا وإن كان غنيا عن الشواهد.
قرأنا في مجلة تنويها عن كتاب يسمى المدهش لابن الجوزي العالم الواعظ المشهور في الخطب والمواعظ ومواضيع أخر يحتاج إليها فلم نشك في نفاسة هذا الكتاب نظرا لما لمؤلفه من الشهرة ولاسمه ومواضيعه من استلفات النظر فأرسلنا إلى بعض أصدقائنا في بغداد التي طبع فيها الكتاب وطلبنا نسخة منه فإذا هو مطبوع طبعا جيدا على ورق جيد وإذا المدهش ليس بمدهش بل من المدهش تسميته بالمدهش وقد فسد رونق خطبه بالتسجيع والتصنع والتكلف. وبذلك يعرف قدر كلام نهج البلاغة وبضدها تتبين الأشياء.
فإذا كان ابن الجوزي الذي صرف عمره في الخطابة والوعظ وكان لخطبه التأثير العظيم في نفوس السامعين وكانت تجري لها الدموع وترجف القلوب هذا حاله. وقس على ذلك خطب ابن نباتة وغيره من الخطباء الذين دون كلامهم واشتهر فإذا تأملتها عرفت مكانة كلام نهج البلاغة وإن هذا النوع من الكلام بعد كلام الله تعالى ورسوله، مرتفع عن درجة كلام الناس.
الذوق والأدب قرأنا في جريدة الاستقلال العربي في عددها الصادر 16 شوال سنة 1363 نص الكلمة التي أنشأها الأستاذ سليم الجندي وألقيت في الجامعة السورية في إحدى جلسات مهرجان المعري بعنوان دين المعري قال فيها ما نصه: فقد وصموه بأنه كان برهميا زنديقا وملحدا وكافرا ودهريا وقرمطيا وشيعيا.
فقد جعل الأستاذ الجندي التشيع وصمة وحشره مع من سمعت وقد كان من مقتضى حسن الذوق ورعاية الأدب وإكرام الضيف عند العرب مراعاة شعور كافة الشيعة ولا سيما الضيوف العراقيين منهم من وزراء وأعيان وأدباء وشعراء وفيهم الوفد العراقي الذين أموا دمشق لمشاركة إخوانهم السوريين والمصريين والفلسطينيين في مهرجان المعري وهم حضور في ذلك المحفل، تجنب أمثال هذه الألفاظ الجارحة للعواطف لو كان فيها شئ من الحق والصدق فكيف وهي لا تمت إليهما بصلة أبدا. التشيع لأهل البيت الطاهر النبوي ولمفخرة الاسلام والعرب علي بن أبي طالب يا حضرة الأستاذ ليس وصمة بل هو مفخرة لكل عربي ولكل مسلم صحيح الاسلام. وأبو العلاء المعري إذا صحت نسبة التشيع إليه فذلك مما يدخل في تقريضه ومدحه لا مما يعيبه ويصمه، والذين نسبوا أبا العلاء إلى التشيع إنما أخذوا ذلك من أمثال قوله:
- أرى الأيام تفعل كل نكر * فما أنا في الحوادث مستزيد - - أ ليس قريشكم قتلت حسينا * وكان على خلافتكم يزيد - وسواء أ كان قصد المعري بذلك نصر التشيع أم أمر آخر فلا يستطيع أحد رد هذا القول عليه.