ويمكن تقسيم محتويات هذا الكتاب إلى أقسام 1 الكلام في التوحيد والعدل وصفات الباري تعالى وتنزيهه عن شبه الخلق 2 الخطب السياسية وخطب الحروب والتظلم 3 الخطب الدينية في الوعظ والترهيب والترغيب وذم الدنيا والأخلاقيات والوصايا ومدح العلم 4 الوصايا 5 الأدعية 6 الملاحم 7 الصفات كوصف الطاووس والخفاش والنملة والجرادة ووصف الجنة وغيره 8 الكتب والرسائل 9 الحكم القصيرة والأمثال.
وهذا الكتاب قد حوى من نفائس الكلام ما استحق به ان يسمى نهج البلاغة واشتهر في جميع الأقطار والأمصار والأعصار اشتهار الشمس في رائعة النهار. وشرح نيفا وثلاثين شرحا من أعاظم العلماء، وأول من شرحه علي بن الناصر المعاصر للشريف الرضي جامع النهج وآخر من شرحه الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية من أهل هذا العصر وهذا الكتاب الذي هو من مفاخر العرب والاسلام مجموع من أماكن متبددة من كتب العلماء كغيره من الكتب التي جمعت من كلام الفصحاء من الشعراء والخطباء وغيرهم كديوان الحماسة الذي جمعه أبو تمام من مختارات الأشعار وكتاب المفضليات للضبي وحماسة البحتري التي جمعها على نحو حماسة أبي تمام وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وغير ذلك من الكتب التي لا تحصى المجموعة من كلام البلغاء نثرا ونظما ولم نجد أحدا قدح فيها أو في نسبتها إلى أصحابها إلا شاذا قد يخطئون فيه المؤلف في نسبته شعرا أو كلاما لرجل فيقولون قد روى فلان انه لغيره. ولكن نهج البلاغة تناوله جماعة بالانكار، فقال بعضهم انه كله من كلام جامعه لا من كلام من نسب إليه، وبعضهم أخطأ في اسم جامعه فنسبه إلى الشريف المرتضى أخي الشريف الرضي وادعى انه من وضعه لا من كلام علي. وبعضهم تنازل عن هذه الدعوى إلى ما هو أخف منها فقال: انه قد ادخل فيه ما ليس من كلام علي ع. وبعضهم كالذهبي في ميزانه تجاوز الحد فادعى ان كلامه ركيك وانه ليس من نفس القرشيين.
وإذا تأملنا بعين البصيرة والإنصاف وجدنا ان الباعث لهؤلاء على انكار نهج البلاغة كله أو بعضه إنما هو اشتماله على ما يعدونه قدحا في الصحابة المقدسين عن كل قدح كالذي اشتملت عليه الخطبة الشقشقية وغيرها، واشتماله على ما يظهر منه التألم ممن تقدمه في الخلافة وإظهار انه أحق بها منهم، هذا هو الباعث لهم على الإنكار لا أقل ولا أكثر. وقد أوضح عن هذا المعنى أمير البيان الأمير شكيب ارسلان في كلام له في مجمع من أفاضل دمشق المشهورين حين زارها بعد رجوعه من أوربا بعد الحرب العامة الثانية فجرى ذكر نهج البلاغة فقال أحدهم انه موضوع على لسان علي ووافقه الباقون والأمير شكيب ساكت فسألوه عن رأيه في ذلك فقال إذا كان موضوعا فمن هو واضعه هل هو الشريف الرضي؟ قالوا نعم قال إن الشريف الرضي لو قسم أربعين رجلا ما استطاع ان يأتي بخطبة واحدة قصيرة من خطب نهج البلاغة أو جملة من جمله، نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دون شك أو ريب ولكن الذي أوجب الشك فيه اشتماله على القدح في الصحابة الذين هم مقدسون في انظار الناس اه.
ولما كان نهج البلاغة له منه عليه شواهد وهو كسائر كلام علي كما قيل عنه انه بعد كلام النبي ص فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق لا يرتاب في ذلك إلا أمثال من يريد التشكيك في الشمس الضاحية وقد تشبث جماعة من أهل هذا العصر بوجوه اقتبسوا أكثرها من أقوال بعض المستشرقين ممن يهمهم التشكيك في كل اثر اسلامي.
منها إنه ليس فيه أسانيد. والجواب ان جامعه لما كان من العلماء الثقات الخيرين وجب قبول قوله في أنه اخذ ما جمعه من كتب العلماء المعتبرة ولم يكن قصده من جمعه ان تؤخذ منه الاحكام ومسائل الحلال والحرام ليذكر أسانيده وإنما قصد جمع مختارات كلام له حظه في الفصاحة والبلاغة والمضامين العالية لينتفع قراؤه بذلك. ولو علم الشريف الرضي انه سيجئ زمان ينكر فيه بعض الناس ان نهج البلاغة من كلام علي ويدعي فيه الركة وهو لا يعرف جامعه فينسبه إلى غيره لأجتهد في ذكر أسانيده وذكر الكتب التي انتخبه منها كما أنه أشار إلى بعضها.
ومنها وجود كلمات فيه لم تتكلم بها العرب في الجاهلية ولا في الاسلام حتى ترجمت كتب المنطق والفلسفة ووضع علم الأصول وذلك كلفظة الكيفية وما اشتق منها بقوله في خطبة الأشباح لتجري في كيفية صفاته وقوله فتكون في مهب فكرها مكيفا وبعد كون اللفظة عربية والاشتقاق منها عربي لا يضر عدم اطلاع هؤلاء على وجودها في كلام العرب في جاهلية أو اسلام ومتى أحاطوا بكلام العرب أو بما نقل في كتب الأدب من كلام العرب وقد وجدت كلمة القسطاس وغيرها من الألفاظ الغير العربية في القرآن المجيد ولم يعترض منكرو القرآن على القرآن بان فيه كلمات غير عربية أو لم ترد في كلام العرب ومثل هذا الاعتراض انما يقوله العاجز الذي لا يجد اعتراضا ويريد ان يتشبث بالأوهام. وكلفظ الخاص والعام والمحكم والمتشابه والمجمل والمبين التي هي من مصطلح علم الأصول الذي وضع في القرن الثاني وهي موجودة في الخطبة التي يذكر فيها إبتداء خلق السماوات والأرض وآدم ومن البعيد ان يتفق لانسان سرد أسماء متعددة موضوعة لمعان خاصة بها في علم خاص من غير أن يكون له اطلاع على ذلك العلم ومعرفة بمواضعات أهله. وهذا الاعتراض كسابقه في أنه اعتراض من يريد ان يعترض ولا يجد بابا للاعتراض فيتشبث بما ليس فيه تشبثا فهذه الألفاظ عربية صحيحة ورد بعضها وهو المحكم والمتشابه في القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة آل عمران هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات، والعام والخاص والمجمل والمبين من الألفاظ الشائعة في كلام العرب الكثيرة الاستعمال وقد وجد العموم والخصوص والاجمال والتبيين في القرآن الكريم فإذا أراد علي ان يبين هذه المعاني الموجودة في القرآن عند كلامه على القرآن فبأي لفظ يريد ان يعبر هل كان عليه ان يجتنب لفظ العموم والخصوص والاجمال والتبيين لأنها ستوجد في مصطلح الأصوليين ما هذا إلا تحكم، ولعل الأصوليين انما اخذوها من كلام علي وكلام غيره من العلماء السابقين عليهم. وكلفظ أزل وأزلية بمعنى القدم فقد تكررت هذه الكلمة في مواضع من نهج البلاغة وقد صرح أئمة اللغة ان قولهم أزلي وأزلية مصنوع وليس من كلام العرب و تكلفوا لتخريجه وهذا أيضا كسابقيه فقد نص الفيروزبادي في قاموسه وهو ما لا ينكر تبحره في اللغة وسعة اطلاعه على أن الأزل عربي فقال ما لفظه: الأزل بالتحريك القدم وهو أزلي أو أصله يزلي منسوب إلى لم يزل ثم أبدلت الياء ألفا للخفة كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يزن أزني وفي الصحاح الأزل بالتحريك القدم