على هذا فافتراء محض ودعوى تحتاج إلى الاثبات فالخلفاء المصريون كانوا على ظاهر الاسلام والتمسك بضروريات الشرع واحكامه إلا ما يحكى من بعض الشذوذات عن الحاكم ولا يمكننا التصديق بذلك مع العداوة والعصبية.
قال المقريزي: وابن سبا هو الذي أثار فتنة أمير المؤمنين عثمان رض حتى قتل كما ذكر في ترجمة ابن سبا من كتاب التاريخ الكبير المقفى وكان له عدة أتباع في عامة الأمصار وأصحاب كثيرون في معظم الأقطار فكثرت لذلك الشيعة وصاروا ضدا للخوارج وما زال أمرهم يقوى وعددهم يكثر اه.
وهذا الكلام أكثر خلطا وأشد خبطا من سابقه، بل أثار فتنة أمير المؤمنين عثمان رض من كان يخرج قميص رسول الله ص ويقول ما هو معروف مشهور، ومن صلى بالناس صلاة الصبح ثلاث ركعات في مسجد الكوفة وهو سكران وتقيا الخمر في محراب المسجد، ومن كان يكتب الكتب عن لسان أمير المؤمنين عثمان ويختمها بخاتمه ويرسلها مع غلامه على راحلته ولا يعلم بذلك عثمان، ومن ترك عثمان محصورا وخرج من المدينة، ومن كان كلما وعد عثمان أحدا بإزالة شكاية أفسد عليه، ومن استنجد به عثمان فلم ينجده بل أرسل قوما لنجدته فاقاموا بأمره دون المدينة حتى قتل، فهؤلاء الذين أثاروا فتنة عثمان لا ابن سبا اليهودي فإنه أقل وأذل من ذلك، ووا عجبا كيف استطاع ابن سبا اليهودي الملحد أن يؤثر على جميع المسلمين وفيهم جمهور الصحابة الكرام وأهل الحل والعقد فيوقعهم في فتنة عمياء تؤدي إلى قتل خليفتهم وتشعب أمرهم ونشوب الفتن بينهم وهم لا يشعرون، أن هذا ما لا يكون هذا إن وجد ابن سبأ.
السادس رأينا جماعة من المتعصبين على الشيعة ذكروا ما حاصله:
إن أصل التشيع كان من الفرس كيدا للاسلام الذي أزال ملكهم وسلطانهم فأرادوا الانتقام منه فلم يستطيعوا فتستروا بالتشيع لهدم الاسلام وادخال البدع والضلال فيه باسم التشيع. وهذا كلام من لا خبرة له بالتاريخ وأحوال الأمم أو من يتعامى عن الحقائق فالفرس الذين دخلوا في الاسلام أولا لم يكونوا شيعة حتى يقال في حقهم ذلك إلا القليل منهم واستمروا على غير مذهب الشيعة الأحقاب الطويلة والعصور المتمادية وجل علماء أهل السنة واجلاؤهم هم من الفرس كالبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة القزويني والامام الرازي والقاضي البيضاوي وأبو زرعة الرازي والامام فخر الدين الرازي والفيروزآبادي الكازروني صاحب القاموس والزمخشري والتفتازاني وأبي القاسم البلخي والقفال المروزي والشاشي والنيسابوري والبيهقي والجرجاني والراغب الأصفهاني والخطيب التبريزي وغيرهم ممن لا يمكن احصاؤهم ومن دخل من الفرس في الاسلام وتشيع فحاله حال كل من تشيع من سائر الأمم كالعرب والترك والروم وغيرهم لم يكن باعثه على ذلك إلا حب الاسلام وحب مذهب أهل البيت فدخل في الاسلام وتشيع عن رغبة واعتقاد. وإذا جاز أن يقال عن الفرس أنهم تشيعوا كيدا للاسلام جاز أن يقال عن العرب أنهم خالفوا التشيع كيدا للاسلام الذي قهرهم وأخرجهم عن عبادة الأوثان أو يقال إن الفرس خالفوا التشيع كيدا للاسلام فأدخلوا فيه ما يزعم الشيعة خروجه عن تعاليم الاسلام. ولكن الحقيقة أن بعض الفرس دان بالتشيع للسبب الذي دان به غيرهم بالتشيع وبعضهم دان بالتسنن للسبب الذي دان به غيرهم بالتسنن، سنة الله في خلقه وهذه التأويلات والاستنباطات لا تستند إلى مستند وإنما ساقت إليها العداوة للشيعة وقصد التشنيع عليهم بكل طريق ليس إلا وقد نشر التشيع في قم وأطرافها الأشعريون وهم عرب صميمون هاجروا إليها من الكوفة في عصر الحجاج وغلبوا عليها واستوطنوها وانتشر التشيع في خراسان بعد خروج الرضا ع إليها كما مر ثم زاد انتشاره في عصر الملوك الصفوية الذين نصروا التشيع في إيران وهم سادة أشراف من نسل الإمام موسى بن جعفر ع وهم عرب صميمون لا يمكن أن يتعصبوا للأكاسرة والذين يمكن في حقهم ذلك هم قدماء الفرس وهؤلاء جلهم كان على مذهب التسنن كما مر فمن هم إذا الذين دخلوا من الفرس في التشيع لكيد الاسلام؟...
توهم صاحب حاضر العالم الاسلامي والمعلق عليه بعد كتابة ما مر عثرنا على كلام في كتاب حاضر العالم الاسلامي تاليف لوثروب تودارد الأميركي وتعريب عجاج نويهض وتعليق الأمير شكيب ارسلان عليه، يناسب ما مر في الأمر السادس فأثبتناه هنا، وبعض ما اشتمل عليه وإن كنا قد أشرنا إليه في الأمر السادس المتقدم إلا أننا نذكره هنا ببيان أوسع. وقد علمنا من هذا الكلام أن الافتراءات على الشيعة لم تقتصر على اخصامهم من فرق المسلمين بل تجاوزتهم إلى غيرهم من الفرنج الذين قلدوا أخصام الشيعة من غير تحقيق ولا تمحيص. قال المعرب ج 1 ص 8 في جملة كلام له ما ملخصه: إنه قام مقام الأبطال حاملي لواء الاسلام الأولين امراء دينيون اتخذوا الخلافة وسيلة للجور والظلم والتباهي بمتاع الدنيا وكانت الخلافة في الحجاز شوروية قائمة على قواعد الاسلام الصحيحة اما في دمشق وبغداد فقد تحولت الأحوال وتبدلت الأمور ولما نقلت الخلافة إلى بغداد ازدادت كلمة الفرس نفوذا وما الخليفة الأعظم هارون الرشيد إلا الملك العربي على شاكلة ملوك الفرس وفي بغداد كما في غيرها كان الاستبداد مقوضا لأركان الدولة فغدا خلفاء النبي وهم على هذه الحال طغاة موسوسين وألاعيب بين أيدي الحظايا.
فلما دخلت شعوب مختلفة غير عربية في الاسلام أخذ كل شعب منها يفسر بوحي غريزته رسالة النبي ص على ما يلائم منازعه الشعبية ويوافق روح التهذيب الذي كان عليه فنتج عن جميع ذلك أن الاسلام الحقيقي الذي شاهده العالم في أول منشئه قد أعوج والتوى، قال: ولنا أجلى دليل على هذا ما حدث في بلاد فارس حيث استحالت الوحدانية التي نادى بها محمد إلى مذهب الشيعة فبات أهل فارس الشيعة على صلات واهية تكاد لا ترتبط بعالم السنة الاسلامي اه.
وقال الأمير شكيب فيما علقه على هذا المقام ما لفظه: يذهب بعضهم إلى كون استيلاء العرب على فارس وإبادتهم ملك كسرى مع ما كان من العداوة بين الأمتين منذ أحقاب كان من نتائجها إيغار صدور العجم على العرب وتربصهم بهم الدوائر حتى يأخذوا منهم بثارهم. ولما كان دين الفرس المجوسية قد تلاشى أمام الدين العربي المبين انتهز الفرس أول فرصة وقعت في الاسلام نفسه ونصروا الفئة التي وجدوا أكثر العرب ضدها وهي الشيعة ولعبوا دورا عظيما في توسيع هذه الفتنة بين العرب من طريق الدين فشفوا أحنتهم من العرب بدون أن يقاوموا نفس الاسلام الذي رأوا برهانه أسطع من أن يكابر بل بمقاومة إحدى فئتيه التي هي السنة والجماعة لهذا