أقول ومما تقدم يعلم أن الحسن ع لم يفرط في أمر السياسة واخذ بالحزم والتدبير فعلم بالجاسوسين اللذين أرسلهما معاوية بعد وفاة أمير المؤمنين ع وقتلهما واستحث أهل العراق وسار بمن اتبعه منهم لقتال معاوية وأرسل اثني أشر ألفا مقدمة له وأمر عليهم ابن عمه عبيد الله بن العباس وأمره بمشاورة قيس وسعيد لما يعلم من نصحهما وان امارات الخذلان كانت بادية على أهل العراق بتثاقلهم أول الأمر حين دعاهم وانهم لم يخرجوا إلا بعد التأنيب والتوبيخ ممن عرفت وان المخلصين منهم له كانوا أقل قليل وأكثرهم خوارج وأهل عصبية خرجوا تبعا لرؤسائهم وطمعا في النهب وانه كان يتخوف خذلان أصحابه من أول الأمر وان خطبته بالمدائن لم تكن الا لاختبارهم واظهار اسرارهم وانه لم يكن من الرأي ان يسير بهم على تلك الحال إذ لا يؤمن ان يسلموه إلى معاوية فلما ظهر له فساد نيات الخوارج فيه بما أظهروه له من السب والتكفير واستحلال دمه ونهب أمواله مع ما كان من فعل عبيد الله بن عباس والقائدين المرسلين بعده وما علمه من مكاتبة أصحابه معاوية وما ضمنوه له من الفتك به أو تسليمه إليه وعلم أنه لو لم يصالح لسلموه إلى معاوية ولكانت المفسدة أعظم أجاب إلى الصلح مكرها مرغما واختار أقل الضررين وأهون المفسدتين وان صلحه هذا لا يجعل لمعاوية عذرا ولا يرفع عنه وزرا بل يزيده ذما واثما. ومما يدل على ما ذكرناه ما ذكره ابن الأثير في الكامل قال لما راسل معاوية الحسن في تسليم الأمر إليه خطب فقال انا والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع وكنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم امام دنياكم وأصبحتم اليوم ودنياكم امام دينكم الا وقد أصبحتم بين قتيلين قتيل بصفين تبكون له وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره فاما الباكي فخاذل واما الطالب فثائر الا ان معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة فان أردتم الموت رددناه عليه وان أردتم الحياة قبلناه واخذنا لكم الرضى فناداه الناس من كل جانب: البقي البقية. وما حكاه سبط بن الجوزي عن السدي أنه قال لم يصالح الحسن معاوية رغبة في الدنيا وانما صالحه لما رأى أهل العراق يريدون الغدر به وفعلوا معه ما فعلوا فخاف منهم أن يسلموه إلى معاوية والدليل على أنه خطب بالنخيلة قبل الصلح فقال أيها الناس إن هذا الأمر الذي اختلفت فيه انا ومعاوية إنما هو حق اتركه إرادة لاصلاح الأمة وحقنا لدمائها وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. وقال ابن الأثير لما تم الصلح قال الحسن يا أهل العراق إنه سخي بنفسي عنكم ثلاث قتلكم أبي وطعنكم إياي وانتهابكم متاعي.
وقال ع في جملة كلام له رواه الطبرسي في الاحتجاج:
والله ما سلمت الأمر إلى معاوية إلا لأني لم أجد أنصارا ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه.
ومن مجموع ما مر يعلم الوجه في صلحه ع وانه كان هو الرأي والصواب وسيأتي في سيرة أخيه الحسين ع وجه الفرق بين حالتيهما.
شروط الصلح حكى الصدوق عن كتاب الفروق بين الأباطيل والحقوق تاليف محمد بن بحر الشيباني عن أبي بكر محمد بن الحسن بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري ثنا أبو طالب زيد بن اجزم ثنا أبو داود ثنا القاسم بن فضيل ثنا يوسف بن مازن الراسبي قال: بايع الحسن بن علي معاوية على أن لا يسميه أمير المؤمنين ولا يقيم عنده شهادة وأن لا يتعقب على شيعة علي شيئا ويؤمنهم ولا يتعرض لأحد منهم بسوء ويوصل إلى كل ذي حق منهم حقه وأن يفرق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل وصفين ألف ألف درهم وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد من بلاد فارس اه وكان فيما شرطه أن يترك سب أمير المؤمنين والقنوت عليه في الصلاة. وقال ابن الأثير انه لم يجبه إلى الكف عن شتم علي فطلب أن لا يشتم وهو يسمع فاجابه إلى ذلك ثم لم يف له به أيضا اه وعاهد معاوية الحسن على ما تم بينهما من الشروط وحلف له بالوفاء وكتب بينه وبينه بذلك كتابا ثم لم يف له بشئ مما عاهده عليه.
صورة كتاب الصلح بين الحسن ومعاوية ذكره ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة. بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان صالحه على أن يسلم إليه ولاية المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهدا على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم وعلى أن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول الله ص غائلة سوء سرا وجهرا ولا يخيف أحدا منهم في أفق من الآفاق شهد عليه بذلك فلان وفلان وكفى بالله شهيدا.
قال المفيد: فلما تم الصلح سار معاوية حتى نزل النخيلة وهي معسكر الكوفة وكان ذلك يوم جمعة فصلى بالناس وخطبهم وقال أبو الفرج انه جمع الناس بالنخيلة فخطبهم قبل أن يدخل الكوفة خطبة طويلة لم ينقلها أحد من الرواة تامة وجاءت مقطعة فنذكر ما انتهى إلينا منها فقال:
ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها ثم انتبه فاستدرك وقال إلا هذه الأمة فإنها وانها. قال المفيد وأبو الفرج وقال في خطبته إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا انكم لتفعلون ذلك ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون إلا واني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشئ منها. وفي رواية أبي الفرج أنه قال إن كل شئ أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به قال أبو الفرج قال شريك في حديثه هذا هو التهتك. وقال المدائني: خطب معاوية أهل الكوفة فقال:
أ تراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة لمطلول وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين قال أبو الفرج: لما بويع معاوية خطب فذكر عليا ع فنال منه ونال من الحسن ع فقام الحسين ع ليرد عليه فاخذ الحسن بيده فأجلسه ثم قام فقال أيها الذاكر عليا انا الحسن وأبي علي وأنت معاوية وأبوك صخر وأمي فاطمة وأمك هند وجدي رسول الله ص وجدك حرب وجدتي خديجة وجدتك قتيلة فلعن الله أخملنا ذكرا والأمنا حسبا وشرنا قديما وأقدمنا كفرا ونفاقا. فقال طوائف من أهل المسجد: آمين قال يحيى بن معين ونحن نقول آمين قال أبو عبيد ونحن أيضا نقول آمين قال أبو الفرج وانا أقول آمين قال المؤلف وانا أقول آمين.
وأقام معاوية ومن بعده من ملوك بني أمية على سب أمير المؤمنين ع