ذوي انقباض في الأخلاق وعبوس في الوجوه ونفار من الناس وأمير المؤمنين ع كان أشجع الناس وأكثرهم إراقة للدماء وأزهدهم وأبعدهم عن ملاذ الدنيا وأكثرهم وعظا وتذكيرا بأيام الله وأشدهم اجتهادا في العبادة وكان مع ذلك الطف العالم أخلاقا وأكثرهم بشرا حتى عيب بالدعابة وهذا من عجائبه وغرائبه اللطيفة ومنها أن الغالب على شرفاء الناس ومن هو من أهل بيت السيادة والرياسة الكبر والتيه وكان أمير المؤمنين ع لا يشك عدو ولا صديق أنه أشرف خلق الله نسبا بعد النبي ص وقد حصل له من غير شرف النسب جهات كثيرة متعددة ومع ذلك كان أشد الناس تواضعا لصغير وكبير وألينهم عريكة وأبعدهم عن كبر في زمان خلافته وقبلها لم تغيره الأمرة ولا أحالت خلقه الرياسة وكيف ولم يزل رئيسا أميرا قال أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم. تذاكروا عند أبي عبد الله أحمد بن حنبل خلافة أبي بكر وعلي فأكثروا فرفع رأسه إليهم وقال قد أكثرتم ان عليا لم تزنه الخلافة ولكنه زانها ومنها أن الغالب على ذوي الشجاعة وقتل الأنفس ان يكونوا قليلي الصفح لأن القوة الغضبية عندهم شديدة وكان أمير المؤمنين ع مع شجاعته وكثرة اراقته الدماء كثير الصفح والعفو وقد رأيت فعله يوم الجمل ولقد أحسن مهيار في قوله:
- حتى إذا دارت رحى بغيهم * عليهم وسبق السيف العذل - - عاذوا بعفو ماجد معود * للعفو حمال لهم على العلل - - فنجت البقيا عليهم من نجا * وأكل الحديد منهم من أكل - - أطلت بهم أرحامهم فلم يطع * ثائرة الغيظ ولم يشف الغلل - - اه ملخص ما ذكره ابن أبي الحديد وفي اجتماع الأضداد في صفات أمير المؤمنين ع يقول الصفي الحلي:
- جمعت في صفاتك الأضداد * فلهذا عزت لك الأنداد - - زاهد حاكم حليم شجاع * ناسك فاتك فقير جواد - - شيم ما جمعن في بشر قط * ولا حاز مثلهن العباد - - خلق يخجل النسيم من اللطف * وبأس يذوب منه الجماد - - حل معناك أن يحيط به الشعر * وتحصي صفاته النقاد - وقال ابن أبي الحديد في بعض علوياته مشيرا إلى ذلك:
- والحبر يصدع بالمواعط خاشعا * حتى تكاد لها القلوب تصدع - - حتى إذا استعر الوغى متلظيا * شرب الدماء بغلة لا تنقع - - متجلببا ثوبا من الدم قانيا * يعلوه من نقع الملاحم برقع - - زهد المسيح وفتكة الدهر التي * أودى بها كسرى وفوز تبع - وقال الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في كتابه حلية الأولياء في ترجمته: علي بن أبي طالب وسيد القوم محب المشهود ومحبوب المعبود باب مدينة العلم والعلوم ورأس المخاطبات ومستنبط الإشارات راية المهتدين ونور المطيعين وولي المتقين وإمام العادلين أقدمهم إجابة وإيمانا وأقومهم قضية وإيقانا وأعظمهم حلما وأوفرهم علما علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قدوة المتقين وزينة العارفين المنبئ عن حقائق التوحيد صاحب القلب العقول واللسان السؤول والإذن الواعي فقاء عيون الفتن فدفع الناكثين ووضع القاسطين ودفع المارقين الأخيشن في ذات الله اه. وفي الإصابة: كان قد اشتهر بالفروسية والشجاعة والاقدام ولم يزل بعد النبي ص متصديا لنصر العلم والفتيا ثم قال ما حاصله: فلما قتل عثمان بايعه الناس ثم كان قيام طلحة والزبير وعائشة في طلب دم عثمان فكانت وقعة الجمل ثم قام معاوية في أهل الشام فدعا إلى الطلب بدم عثمان فكانت وقعة صفين وكل من الفريقين مجتهد وكان من الصحابة فريق لم يدخلوا في شئ من القتال وظهر بقتل عمار أن الصواب كان مع علي واتفق على ذلك أهل السنة بعد اختلاف كان في القديم ولله الحمد اه.
أقول ألا ترى إلى هذا الحافظ الكبير كيف يتبلبل عن إدراك الحقيقة وهي أجلى من الشمس الضاحية يقول اشتهر بالفروسية والشجاعة والاقدام وكان الأولى به أن يقول اشتهر بكل فضيلة فأي فضيلة لم يشتهر بها اشتهاره بالشجاعة اشتهر بالعلم والحلم والفصاحة وحل المشكلات عند القضاء والزهد والورع والعبادة والعدل وغيرها من محاسن الصفات ولم يكن شئ من الفضائل لم يشتهر به وقوله وكل من الفريقين مجتهد قول يصعب التصديق به ممن قتل الأمور بحثا وتاملا ولم يشأ أن يقلد من يجوز عليه الخطا وممن سمع وعرف أن الاجتهاد لا يجوز في مقابل النص ولا في القطعيات والأمور الظاهرة قوله وظهر بقتل عمار أن الحق كان مع علي فيه من التجاهل بالحقائق ما لا ينقضي منه العجب أ فكان قول النبي ص عمار تقتله الفئة الباغية أشهر وأعرف عند الناس من قوله ص علي مع الحق والحق مع علي يدور معه كيفما دار يا علي حربك حربي وسلمك سلمي يا علي من أبغضك فقد أبغضني ومن سبك فقد سبني وأمثالها مما شاع وذاع ورواه الجمهور من الصحابة أ لم يكن واحد من هذه الآثار كافيا في ظهور أن الحق مع علي فضلا عن جميعها أ فلم يكن في مبايعة المهاجرين والأنصار وإجلاء الصحابة له بالمدينة الذين لم يبايع من تقدمه أكثر منهم دليلا على أن الحق معه وما أحسن ما قاله بعض العلماء العجب من قوم يأخذهم الريب لمكان عمار ولا يأخذهم لمكان علي بن أبي طالب.
مناقبه وفضائله نظرة اجمالية فيها وفي أحواله نبغ في الأزمان على تعاقبها نوابغ يمتازون عن سائر أهل زمانهم وهؤلاء النوابغ يتفاوتون في نبوغهم وصفاتهم التي ميزتهم عمن سواهم سنة الله في خلقه ومهما تكثر النابغون في الأزمنة المتطاولة فنابغة الاسلام بل نابغة الكون المتفرد في صفاته الفاضلة ومزاياه الكاملة واجتماع محاسن الأضداد فيه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع ربيب رسول الله ص أكمل الخلائق وخريجه.
ذات علي ذات فذة يعسر أو يمتنع على الإنسان مهما أطال ومهما دقق أن يحيط بجميع ما فيها من سمو وتميز على سائر الخلق ومهما حاول الإنسان أن يحيط بجميع صفاته قعد به العجز واستولى عليه البهر كما قال المؤلف من قصيدة علوية تزيد على ثلثمائة بيت وزعناها في هذا الجزء مطلعها:
- صفات علي لا يحيط بها الحصر * وفي عدها تفنى الدفاتر والحبر - ولكن لا يترك الميسور بالمعسور وعن المناقب قال النظام: علي بن أبي طالب محنة على المتكلم أن وفاه حقه غلا وإن بخسه حقه أساء والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن صعبة المرتقى إلا على الحاذق الدين اه.
علمه فان نظرنا إلى علمه وجدناه العالم الرباني الذي يقول على ملأ من الناس سلوني قبل أن تفقدوني ومن ذا الذي يجرؤ من الناس أن يقول