طلبنا لك الطب حتى تبرأ فتلا عليه النبي ص سورة السجدة وعتبة منصت فلما انتهى انصرف عنه إلى قريش وأخبرها أنه لا طمع له في مال ولا سلطان وأشار عليهم أن يخلوا بينه وبين العرب فان تغلبت عليه استراحوا منه وان اتبعته فلقريش فخاره فلم يعجبهم ذلك.
ولم تدع قريش وسيلة ترجو منها القضاء على الاسلام وأهله والحيلولة دون انتشاره إلا توسلت بها ولا سبيلا تأمل الوصول منه إلى ذلك إلا سلكتها وبلغت في ذلك جهدها وغاية استطاعتها فأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون. عمدت أولا إلى تكذيبه والحط من قدره باللسان بالذم والتنقيص لتكف الناس عن اتباعه فقالت تارة أنه ساحر وأخرى انه كاهن ومرة انه شاعر ومرة انه يعلمه بشر وأغروا به شعراءهم أبا سفيان بن الحارث وعمرو بن العاص وعبد الله بن الزبعري فلما لم ينجع ذلك فيه وبقي جادا في أمره واتباعه يزدادون كثرة كل يوم عمدت إلى أذاه واذى أصحابه باليد فرجمته في داره ووضعت السلاء على ثيابه وسلطت أطفالها عليه يرمونه بالحجارة وفعلت أفعالا شبه ذلك وعذبت أصحابه بالحبس والضرب والقتل والالقاء في الرمضاء وغير هذا واضطرتهم بذلك إلى الهرب من بلادهم والهجرة إلى الحبشة ولم تقنع بذلك حتى أرسلت إليهم من يردهم فما زاد هو في دعوته إلا مضاء وأصحابه إلا كثرة وثبات يقين فعرضت عليه المال والملك وكل ما يطمع الناس فيه عادة فلم يمل إلى شئ من ذلك وهددته وأهله وأنذرتهم بالحرب ومشت إلى عمه أبي طالب مرارا لتصده عن نصره وتحمله على ارجاعه عن عزمه بالتهديد وأنواع الحيل فلم يجد ذلك شيئا فعمدت إلى مقاطعتهم وحصرهم في شعب من شعاب مكة لا يجالسون ولا يكلمون ولا يبايعون ولا يناكحون حتى يموتوا جوعا أو يرجع محمد ص عن دعوته فصبروا على ذلك ثلاث سنين فلما أعيتها الحيل ائتمرت فيه وعزمت على قتله وبعثت إليه من يهجم عليه ليلا في داره فيقتله فخرج هاربا منهم إلى المدينة.
الهجرة إلى الحبشة ولما كثر المسلمون ثار كثير من كفار قريش بمن آمن من قبائلهم فعذبوهم وسجنوهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم ومنع الله رسوله ص منهم بعمه أبي طالب فقال لهم رسول الله ص تفرقوا في الأرض قالوا أين نذهب فأشار إلى الحبشة فهاجروا إليها وذلك في رجب من السنة الخامسة من النبوة وكانوا أحد عشر رجلا وأربع نسوة منهم من هاجر وحده خرجوا متسللين إلى الشعيبة منهم الراكب والماشي فوجدوا ساعة وصولهم سفينتين للتجار حملوهم فيهما إلى الحبشة بنصف دينار عن كل نفس وخرجت قريش في طلبهم إلى البحر فلم يدركوهم. قالوا وقدمنا أرض الحبشة فجاورنا خير جار أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذي ولا نسمع ما نكره وكانت الحبشة على دين النصرانية فاقاموا شعبان وشهر رمضان ثم عادوا إلى مكة في شوال لما بلغهم أن قريش أسلمت فلما قاربوا مكة علموا أن ما بلغهم باطل فلم يدخلها أحد منهم إلا بجوار غير ابن مسعود فإنه مكث يسيرا ثم عاد إلى أرض الحبشة فلقوا أذى كثيرا فاذن لهم النبي ص بالهجرة ثانيا.
الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة وكانوا ثمانين رجلا وثماني عشرة امرأة فيهم جعفر بن أبي طالب ومعه زوجته أسماء بنت عميس فاحسن النجاشي جوارهم وساء ذلك قريشا فارسلوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد الذي أرادت قريش دفعه لأبي طالب عوضا عن النبي ص وقيل كان مع عمرو عبد الله بن أبي ربيعة ليكلموا النجاشي في ردهم وأهدوا له ولبطارقته هدايا وكتب عمرو عهدا بين قومه وقوم عمارة أن كلا من القبيلتين بريئة من جناية صاحبها وكانت مع عمرو زوجته وكان عمرو قصيرا دميما وعمارة جميلا وسيما فهويته امرأة عمرو فقال له عمارة مر امرأتك أن تقبلني فقال عمرو ألا تستحي وجلس عمرو على جانب السفينة يبول فدفعه عمارة في الماء فجعل يسبح وينادي أصحاب السفينة ويناشد عمارة فانقذوه وحقدها عليه عمرو وقال لزوجته قبلي ابن عمك لتطيب بذلك نفسه فيحتال بعد ذلك في هلاكه ولما دخلا على النجاشي سجدا له ودفعا إليه الهدية فقبلها وكذلك بطارقته فقالا له أن نفرا من قومنا تركوا ديننا ولم يدخلوا في دينك وقد أرسلنا عظماء قريش لتردهم إليهم وكانا اتفقا مع بطارقة النجاشي بعد أن اعطوهما الهدايا على أن يعاونوهما على رد المسلمين إلى قريش دون أن يسمع النجاشي كلامهم فأبى النجاشي أن يفعل حتى يسمع ما يقولون وأرسل إليهم فقال بعضهم لبعض ما تقولون له؟ قال جعفر نقول له ما أمرنا رسول الله ص ويكون ما يكون فدخلوا عليه ولم يسجدوا له فقال عمرو ألا ترى أيها الملك أنهم لم يسجدوا لك فقال النجاشي ما منعكم أن تسجدوا لي فقال جعفر أنا لا نسجد إلا لله عز وجل فقال ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني فقال جعفر أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسئ الجوار ويأكل القوي منا الضعيف فبعث الله فينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فامرنا أن نعبد الله وحده ونخلع ما كنا نعبد من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام وصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الأرحام وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات فصدقناه وآمنا به فعدا علينا قومنا ليردونا إلى عبادة الأصنام واستحلال الخبائث فلما قهرونا وظلمونا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا أن لا نظلم عندك. قال النجاشي هل عندك شئ مما جاء به؟ قال نعم! فقرأ عليه من سورة مريم حتى انتهى إلى قوله تعالى: فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا. فبكى النجاشي وبكى أساقفته وقال النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
فنزلت وإذا سمعوا ما أنزل الله إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع بما عرفوا من الحق وفي رواية إن جعفرا رضوان الله عليه قال للنجاشي سلهما أ عبيد نحن أم أحرار قال عمرو بل أحرار كرام قال فهل أرقنا دما بغير حق قال لا قال هل لهم علينا دين قال ليس لنا عليهم دين قال النجاشي:
انطلقنا فوالله لا أسلمهم اليكما ابدا ورد الهدية عليهما فلما كان الغد عاد ابن العاص إلى النجاشي فقال له انهم ليقولون في عيسى قولا عظيما فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه فلما دخلوا عليه قال له جعفر نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول فاخذ النجاشي عودا وخط به على الأرض وقال ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط. ولما يئس عمرو من مساعدة النجاشي له على ردهم توجه إلى ما كان قصد له من إعمال الحيلة في هلاك عمارة فقال له عمرو