١٣٦ - اعلم: أن الأمارات المتداولة على ألسنة أصحابنا المحققين كلها من الأمارات العقلائية التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم وجميع امورهم؛ بحيث لو ردع الشارع عن العمل بها لاختل نظام المجتمع ووقفت رحى الحياة الاجتماعية، وما هذا حاله لا معنى لجعل الحجية له وجعله كاشفا محرزا للواقع بعد كونه كذلك عند كافة العقلاء، وها هي الطرق العقلائية - مثل الظواهر وقول اللغوي وخبر الثقة واليد وأصالة الصحة في فعل الغير - ترى أن العقلاء كافة يعملون بها من غير انتظار جعل وتنفيذ من الشارع، بل لا دليل على حجيتها - بحيث يمكن الركون إليه - إلا بناء العقلاء، وإنما الشارع عمل بها كأنه أحد العقلاء. وفي حجية خبر الثقة واليد بعض الروايات التي يظهر منها بأتم ظهور أن العمل بهما باعتبار الأمارية العقلائية، وليس في أدلة الأمارات ما يظهر منه - بأدنى ظهور - جعل الحجية وتتميم الكشف، بل لا معنى له أصلا.
ومن ذلك علم: أن قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه مما لا معنى له؛ أما في القطع الموضوعي فواضح؛ فإن الجعل الشرعي قد عرفت حاله وأنه لا واقع له، بل لا معنى له.
وأما بناء العقلاء بالعمل بالأمارات، فليس وجهه تنزيل المؤدى منزلة الواقع، ولا تنزيل الظن منزلة القطع، ولا إعطاء جهة الكاشفية والطريقية أو تتميم الكشف لها، بل لهم طرق معتبرة يعملون بها في معاملاتهم وسياساتهم، من غير تنزيل واحد منها مقام الآخر، ولا التفات إلى تلك المعاني الاختراعية والتخيلية، كما يظهر لمن يرى طريقة العقلاء ويتأمل فيها أدنى تأمل.
ومن ذلك يعلم حال القطع الطريقي؛ فإن عمل العقلاء بالطرق المتداولة حال عدم العلم ليس من باب قيامها مقام العلم، بل من باب العمل بها مستقلا ومن غير التفات إلى تلك المعاني.
نعم، القطع طريق عقلي مقدم على الطرق العقلائية، والعقلاء إنما يعملون بها عند فقد القطع، وذلك لا يلزم أن يكون عملهم بها من باب قيامها مقامه؛ حتى يكون الطريق منحصرا بالقطع عندهم، ويكون العمل بغيره بعناية التنزيل والقيام مقامه.
وما اشتهر بينهم: من أن العمل بها من باب كونها قطعا عاديا، أو من باب إلقاء احتمال الخلاف - على فرض صحته - لا يلزم منه التنزيل أو تتميم الكشف وأمثال ذلك.
وبالجملة: من الواضح البين أن عمل العقلاء بالطرق لا يكون من باب كونها علما وتنزيلها منزلة العلم، بل لو فرضنا عدم وجود العلم في العالم، كانوا يعملون بها، من غير التفات إلى جعل وتنزيل أصلا.
ومما ذكرنا تعرف وجه النظر في كلام هؤلاء الأعلام المحققين (رحمهم الله) من التزام جعل المؤدى منزلة الواقع تارة، والتزام تتميم الكشف وجعل الشارع الظن علما في مقام الشارعية وإعطاء مقام الإحراز والطريقية له اخرى، إنها كلمات خطابية لا أساس لها.
والعجب أن بعض المشايخ المعاصرين - على ما في تقريرات بحثه - قد اعترف كرارا بأنه ليس للشارع في تلك الطرق العقلائية تأسيس أصلا، وفي المقام قد أسس بنيانا رفيعا في عالم التصور يحتاج إلى أدلة محكمة، مع خلو الأخبار والآثار عن شائبتها فضلا عن الدلالة. هذا حال الأمارات. (أنوار الهداية ٢: ١٠٥ - 108).