في التوكل تفنيد زعم طريق تحصيل التوكل.
* * * التوكل اعتماد القلب في جميع الأمور على الله وبعبارة أخرى:
حوالة العبد جميع أموره على الله، وبعبارة أخرى: هو التبري من كل حول وقوة، والاعتماد على حول الله وقوته. وهو موقوف على أن يعتقد اعتقاد جازما بأنه لا فاعل إلا الله، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله وأن له تمام العلم والقدرة على كفاية العباد، ثم تمام العطف والعناية والرحمة بجملة العباد والآحاد، وأنه ليس وراء منتهى قدرته قدرة، ولا وراء منتهى علمه علم، ولا وراء منتهى عنايته عناية. فمن اعتقد ذلك اتكل قلبه لا محالة على الله وحده، ولم يلتفت إلى غيره، ولا إلى نفسه أصلا. ومن لم يجد ذلك من نفسه، فسببه إما ضعف اليقين، أو ضعف القلب، ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه. فإن القلب الضعيف ينزعج تبعا للوهم، وطاعة له من غير نقصان في اليقين، كانزعاجه أن يبيت مع ميت في قبر أو فراش، مع يقينه بأنه جماد في الحال لا يتصور منه أضرار، فلا ينبغي أن يخاف منه ويفر عنه، كما لا يفر من سائر الجمادات.
وكذا من كان ضعيف القلب وتناول العسل - مثلا -، فشبه العسل بين يديه بالعذرة، فربما نفر طبعه لضعف قلبه وتعذر عليه أن يتناوله، مع يقينه بأنه عسل ولا مدخلية للعذر فيه. فالتوكل لا يتم إلا بقوة اليقين وقوة القلب جميعا، إذ بهما يحصل سكون القلب وطمأنينته. فالسكون في القلب شئ آخر، واليقين شئ آخر. فكم من يقين لا طمأنينة معه، كما قال تعالى:
(أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي) (29).
فالتمس أن يشاهد إحياء الميت بعينه ليثبت اليقين في خياله، فإن النفس تتبع الخيال وتطمئن به، ولا تطمئن باليقين في ابتداء أمره إلى أن تبلغ درجة النفس المطمئنة، وذلك لا يكون في البداية. وكم من مطمئن لا يقين له، كأرباب الملل والمذاهب الباطلة. فإن اليهودي مطمئن القلب إلى تهوده، وكذا النصراني، ولا يقين لهما أصلا، وإنما يتبعون الظن وما