هذا بلد حرام وكأن وجه المناسبة انه لما نصب القتال عليه حراما كان التنفير يقع منه لا إليه ولما روى مسلم هذا الحديث عن إسحاق عن جرير فصل الكلام الأول من الثاني بقوله وقال يوم الفتح ان الله حرم إلى آخره فجعله حديثا آخر مستقلا وهو مقتضى صنيع من اقتصر على الكلام الأول كعلى بن المديني عن جرير كما سيأتي في الجهاد (قوله حرمه الله) سبق مشروحا في حديث أبي شريح ووقع في رواية غير الكشميهني حرم الله بحذف الهاء (قوله وهو حرام بحرمة الله) أي بتحريمه وقيل الحرمة الحق أي حرام بالحق المانع من تحليله واستدل به على تحريم القتل والقتال بالحرم فأما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها وخص الخلاف بمن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم وممن نقل الاجماع على ذلك ابن الجوزي واحتج بعضهم بقتل ابن خطل بها ولا حجة فيه لان ذلك كان في الوقت الذي أحلت فيه للنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم وزعم ابن حزم أن مقتضى قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه لا يجوز القتل فيها مطلقا ونقل التفصيل عن مجاهد وعطاء وقال أبو حنيفة لا يقتل في الحرم حتى يخرج إلى الحل باختياره لكن لا يجالس ولا يكلم ويوعظ ويذكر حتى يخرج وقال أبو يوسف يخرج مضطرا إلى الحل وفعله ابن الزبير وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس من أصاب حدا ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع وعن مالك والشافعي يجوز إقامة الحد مطلقا فيها لان العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الامن وأما القتال فقال الماوردي من خصائص مكة أن لا يحارب أهلها فلو بغوا على أهل العدل فان أمكن ردهم بغير قتال لم يجز وان لم يمكن الا بالقتال فقال الجمهور يقاتلون لان قتال البغاة من حقوق الله تعالى فلا يجوز اضاعتها وقال آخرون لا يجوز قتالهم بل يضيق عليهم إلى أن يرجعوا إلى الطاعة قال النووي والأول نص عليه الشافعي وأجاب أصحابه عن الحديث بحمله على تحريم نصب القتال بما يعم أذاه كالمنجنيق بخلاف ما لو تحصن الكفار في بلد فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وعن الشافعي قول آخر بالتحريم اختاره القفال وجزم به في شرح التلخيص وقال به جماعة من علماء الشافعية والمالكية قال الطبري من أتى حدا في الحل واستجار بالحرم فللامام الجاؤه إلى الخروج منه وليس للامام أن ينصب عليه الحرب بل يحاصره ويضيق عليه حتى يذعن للطاعة لقوله صلى الله عليه وسلم وانما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فعلم أنها لا تحل لاحد بعده بالمعنى الذي حلت له به وهو محاربة أهلها والقتل فيها ومال ابن العربي إلى هذا وقال ابن المنير قد أكد النبي التحريم بقوله حرمه الله ثم قال فهو حرام بحرمة الله ثم قال ولم تحل لي الا ساعة من نهار وكان إذا أراد التأكيد ذكر الشئ ثلاثا قال فهذا نص لا يحتمل التأويل وقال القرطبي ظاهر الحديث يقتضى تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالقتال لاعتذاره عما أبيح له من ذلك مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتال والقتل لصدهم عن المسجد الحرام واخراجهم أهله منه وكفرهم وهذا الذي فهمه أبو شريح كما تقدم وقال به غير واحد من أهل العلم وقال ابن دقيق العيد يتأكد القول بالتحريم بأن الحديث دال على أن المأذون للنبي صلى الله عليه وسلم فيه لم يؤذن لغيره فيه والذي وقع له انما هو مطلق القتال لا القتال الخاص بما يعم كالمنجنيق فكيف يسوغ التأويل المذكور وأيضا فسياق الحديث يدل على أن التحريم لاظهار حرمة البقعة بتحريم سفك الدماء
(٤١)