قد حج في تلك السنة وكان عثمانيا فلما رجع من الحج جمعه الطريق مع الحسين ع فحدث جماعة من فزارة وبجيلة قالوا كنا مع زهير بن القين حين أقبلنا من مكة فكنا نساير الحسين ع فلم يكن شئ أبغض إلينا من أن نسير معه إلى مكان واحد أو ننزل معه في منزل واحد فإذا سار الحسين تخلف زهير بن القين وإذا نزل الحسين تقدم زهير فنزلنا يوما في منزل لم نجد بدا من أن ننزل معه فيه فنزل هو في جانب ونزلنا في جانب آخر فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين ع حتى سلم ثم دخل فقال يا زهير إن أبا عبد الله بعثني إليك لتأتيه فطرح كل إنسان منا ما في يده كان على رؤوسنا الطير كراهة أن يذهب زهير إلى الحسين ع قال أبو مخنف فحدثتني دلهم بنت عمرو وهي امرأة زهير قالت: فقلت له الله أ يبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت، فاتاه زهير على كره فما لبث أن جاء مستبشرا قد أشرق وجهه فامر بفسطاطه وثقله ورحله فحول إلى الحسين ع ثم قال لامرأته أنت طالق الحقي باهلك فاني لا أحب أن يصيبك بسببي إلا خير وقد عزمت على صحبة الحسين ع لأفديه بروحي واقيه بنفسي، ثم أعطاها مالها وسلمها إلى بعض بني عمها ليوصلها إلى أهلها، فقامت إليه وبكت وودعته وقالت خار الله لك أسألك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين ع وقال لأصحابه من أحب منكم أن يتبعني وإلا فهو آخر العهد مني، إني سأحدثكم حديثا: إنا غزونا بلنجر وهي بلدة ببلاد الخزر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ففرحنا فقال لنا سلمان الفارسي: إذا أدركتم قتال شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم مما أصبتم من الغنائم، فاما أنا فاستودعكم الله، ولزم الحسين ع حتى قتل معه.
ولما نزل الحسين ع الخزيمية أقام بها يوما وليلة ثم سار حتى نزل الثعلبية فبات بها فلما أصبح إذا برجل من أهل الكوفة يكنى أبا هرة الأزدي قد أتاه فسلم عليه ثم قال يا ابن رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمد ص فقال الحسين ع ويحك يا أبا هرة إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت وشتموا عرضي فصبرت وطلبوا دمي فهربت وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية وليلبسهم الله ذلا شاملا وسيفا قاطعا وليسلطن الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبا إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم وروى عبد الله بن سليم والمذري بن المشعل الأسديان قالا لما قضينا حجنا لم يكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين ع لننظر ما يكون من أمره فاقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقناه بزرود فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين ع فوقف الحسين كأنه يريده ثم تركه ومضى فقال أحدنا لصاحبه إذهب بنا إلى هذا لنسأله فان عنده خبر الكوفة فمضينا إليه فقلنا ممن الرجل قال أسدي قلنا له ونحن أسديان، ثم قلنا له أخبرنا عن الناس من ورائك قال لم اخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ورأيتهما يجران بأرجلهما في السوق فاقبلنا حتى لحقنا الحسين ع فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسيا فجئنا فقلنا له رحمك الله إن عندنا خبرا إن شئت حدثناك علانية وإن شئت سرا فنظر إلينا وإلى أصحابه ثم قال ما دون هؤلاء سر فقلنا قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهانئ ورآهما يجران في السوق بأرجلهما، فقال انا لله وإنا إليه راجعون رحمة الله عليهما يردد ذلك مرارا فقلنا له ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف بأن يكونوا عليك، فنظر إلى بني عقيل فقال ما ترون فقد قتل مسلم؟
فقالوا والله لا نرجع حتى نصيب ثارنا أو نذوق ما ذاق، فاقبل علينا الحسين ع وقال لا خير في العيش بعد هؤلاء فعلمنا انه قد عزم رأيه على المسير فقلنا له خار الله لك، فقال رحمكما الله وارتج الموضع بالبكاء لقتل مسلم بن عقيل وسالت الدموع عليه كل مسيل، فلما كان السحر قال لفتيانه وغلمانه أكثروا من الماء فاستقوا وأكثروا وكان لا يمر بماء إلا أتبعه من عليه، ثم ارتحلوا فسار حتى انتهى إلي زبالة فاتاه بها خبر عبد الله بن بقطر (1) وهو أخو الحسين ع من الرضاعة (2) قال الطبري: وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يعلم بقتله فأخذته خيل الحصين فسيره من القادسية إلى ابن زياد وقيل بل أرسله الحسين ع مع مسلم فلما رأى مسلم الخذلان بعثه إلى الحسين يخبره بما انتهى إليه الامر فقبض عليه الحصين وأرسله إلى ابن زياد فقال له ابن زياد اصعد فوق القصر والعن الكذاب ابن الكذاب ثم انزل حتى أرى فيك فصعد فاعلم الناس بقدوم الحسين ع ولعن ابن زياد وأباه فألقاه من القصر فتكسرت عظامه وبقي به رمق فاتاه عبد الملك بن عمير اللحمي قاضي الكوفة فذبحه بمديته فعيب عليه فقال أردت أن أريحه. فلما أبلغ الحسين ع خبره أخرج إلى الناس كتابا فقرأه عليهم وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإنه قد أتاني خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بقطر وقد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس عليه ذمام. فتفرق الناس عنه واخذوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انضموا إليه، وكان اجتمع إليه مدة مقامه بمكة نفر من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة وإنما فعل ذلك لعلمه بان أكثر من اتبعوه إنما اتبعوه ظنا أنه يقدم بلدا قد استقامت له طاعة أهله فكره أن يسيروا معه الا وهم يعلمون ما يقدمون عليه وقد علم أنه إذا بين لهم لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت معه وقيل إن خبر مسلم وهانئ أتاه في زبالة أيضا. ولقيه الفرزدق بعد ما رجع من الحج فسلم عليه وقال يا ابن رسول الله كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته فاستعبر الحسين ع باكيا ثم قال رحم الله مسلما فلقد صار إلى روح الله وريحانه وتحياته ورضوانه أما أنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا وأنشأ يقول:
- لئن تكن الدنيا تعد نفيسة * فان ثواب الله أعلى وأنبل - - وان تكن الأبدان للموت أنشئت * فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل - - وان تكن الأرزاق قسما مقدرا * فقلة حرص المرء في السعي أجمل - - وان تكن الأموال للترك جمعها * فما بال متروك به المرء يبخل - فلما كان وقت السحر أمر الحسين ع أصحابه فاستقوا ماء وأكثروا ثم ثار من زبالة حتى مر ببطن العقبة فنزل عليها فلقيه شيخ من بني عكرمة وهو لوذان (3) فسأله: أين تريد فقال له الحسين ع الكوفة فقال