ابدا ثم نظر إلى كتيبة قد أقبلت إليه فقال لو حملت على هذه يا علي فحمل أمير المؤمنين عليها فقتل منها هشام بن أمية المخزومي وانهزم القوم ثم أقبلت كتيبة أخرى فقال له النبي ص حمل على هذه فحمل عليهم فقتل منها عمرو بن عبد الله الجمحي وانهزمت أيضا ثم أقبلت كتيبة أخرى فقال له النبي ص احمل على هذه فحمل عليها فقتل بشر بن مالك العامري وانهزمت الكتيبة ولم يعد بعدها أحد منهم وتراجع المنهزمون من المسلمين إلى النبي ص اه.
وروى الطبري بسنده عن أنس بن النضر عم أنس بن مالك أنه انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم فقال ما يجلسكم؟ قالوا قتل محمد رسول الله قال فما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم قاتل حتى قتل اه واصعد رسول الله ص في الجبل مع جماعة من أصحابه فيهم علي بن أبي طالب وهم الذين رجعوا بعد فرارهم اما علي فلم يفارق النبي ص. قال ابن هشام: وقع رسول الله ص في حفرة فشجت ركبته فاخذ علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما وقال ابن هشام أيضا: لما انتهى رسول الله ص إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته ماء من المهراس فجاء به إلى رسول الله ص ليشرب منه فوجد له ريحا فعافه وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه وقال ابن الأثير: لما جرح ص جعل علي ينقل له الماء في درقته من المهراس ويغسله فلم ينقطع الدم فاتت فاطمة وجعلت تعانقه وتبكي وأحرقت حصيرا وجعلت على الجرح من رماده فانقطع اه. وقال الواقدي خرجت فاطمة ع في نساء وقد رأت الذي بوجه أبيها فاعتنقته وجعلت تمسح الدم عن وجهه وذهب علي ع فاتى بماء من المهراس وقال لفاطمة امسكي هذا السيف غير ذميم قال فلما أحضر علي الماء أراد رسول الله ص أن يشرب منه فلم يستطع وكان عطشا ووجد ريحا من الماء كرهها فقال هذا ماء آجن فتمضمض من الدم الذي كان بفيه ثم مجه وغسلت فاطمة به الدم عن أبيها. وقال أيضا خرج محمد بن مسلمة مع النساء وكن أربع عشرة امرأة قد جئن من المدينة يتلقين الناس منهن فاطمة ع إلى أن قال وجعل الدم لا ينقطع من وجهه فلما رأت فاطمة الدم لا يرقا وهي تغسل جراحه وعلي يصب الماء عليها بالمحن أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم ويقال انها داوته بصوفة محرقة اه والظاهر أن الخبر وصل إلى المدينة من بعض المنهزمين الذين دخلوها فلم تتمالك فاطمة حتى جاءت إلى فم الشعب أو إلى مكان غيره قريب من المدينة لتنظر ما جرى على أبيها وبعلها وقال المفيد في الارشاد: انصرف المسلمون مع النبي ص إلى المدينة فاستقبلته فاطمة ع ومعها اناء فيه ماء فغسل وجهه. وهذا يدل على أن استقبالها له كان في نفس المدينة أو قريبا منها وانها لم تخرج إلى أحد الذي يبعد عن المدينة فرسخا أو أكثر وهذا هو الأقرب إلى الاعتبار.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه بعث رسول الله ص علي بن أبي طالب ع فقال اخرج في آثار القوم فانظر ما ذا يصنعون فان كانوا قد اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة قال علي فخرجت في آثارهم فرأيتهم اجتنبوا الخيل وامتطوا الإبل.
وبعد ما انصرف المشركون فرع الناس للنظر في حال من فقد منهم فمن كان حيا جريحا اسعفوه ومن كان ميتا دفنوه فأول ما سال النبي ص عن سعد بن الربيع الخزرجي فوجد حيا باخر رمق ومات ثم قال من له علم بعمي حمزة ولا بد أن يكون علم أنه قتيل أو جريح والا لم يتخلف عنه فقال الحارث بن الصمة انا اعرف موضعه والظاهر أنه رآه لما سقط فيمكن أن يكون حيا ويمكن كونه ميتا لكنه لم يعلم أنه قد مثل به هذا التمثيل الفظيع فلما رآه قد مثل به كره أن يرجع إلى رسول الله ص فيخبره فلم يرجع فلما أبطأ استشعر رسول الله ص من ابطائه فظاعة الحال فقال لعلي اطلب عمك وانما لم يرسله من أول الأمر إشفاقا عليه من أن يرى عمه قتيلا أو جريحا أثبتته الجراحة فتتحرك فيه عاطفة الرحم فيشتد حزنه فلما لم يعد إليه الحارث بخبره لم يجد بدا من ارسال علي فكره علي أن يعود إليه فيخبره بما رأى فلم يعد فعندها لم يجد بدا من أن يطلبه بنفسه مع ما به من التعب المنهك والجراحة فوجده قد بقر بطنه عن كبده وجدع انفه وأذناه فعلت به ذلك هند بنت عتبة فبكى مع ما به من الصبر والجلد وانتحب وكيف لا يبكي على حمزة ويبلغ به الحزن أقصاه وهو أسد الله وأسد رسوله الذي يعده للشدائد وهو قاتل الأبطال يوم بدر والخارج أمامه بالجيش يوم أحد وعضده وناصره في كل موقف والقائل في حقه يوم الخندق اللهم انك أخذت مني عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد فاحفظني في علي أو ما هذا معناه.
وهؤلاء الثلاثة كانوا أركان جيشه وبلغ به الأسف على حمزة ان قال لن أصاب بمثلك ما وقفت موقفا قط أغيظ علي من هذا الموقف وبالغ بتمني أن يتركه ليكون في أجواف السباع وحواصل الطير لئلا ينطفي حزنه ليشتد الباعث على الأخذ بثاره لولا أن تحزن أخته صفية أو تكون سنة من بعده وحلف ليمثلن بثلاثين أو سبعين من قريش ان ظفر بهم جزاء عن تمثيلهم بعمه حمزة لكنه صبر وعفا ونهى عن المثلة لما اوحى الله تعالى إليه وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين وكرر الصلاة على حمزة مع كل شهيد حتى صلى عليه سبعين مرة ولما سمع البكاء من دور الأنصار على قتلاهم ذرفت عيناه فبكى وتأسف أن لا يكون لحمزة بواكي كثيرة مع أن الهاشميات كن يبكينه لكن لا كبكاء الأنصاريات في كثرتهن فقال لكن حمزة لا بواكي له وأي شهيد أحق بالبكاء عليه من حمزة الذي ابكى مصابه رسول الله ص فامر رؤساء الأنصار نساءهم أن يبكين حمزة قال ابن سعد: فهن إلى اليوم إذا مات ميت من الأنصار بدأ النساء فبكين على حمزة ثم بكين على ميتهن.
ولكن أبا سفيان وزوجته أظهرا من خبث السريرة ولؤم الغلبة ما هما أهله فمثلت هند بحمزة ولاكت كبده فسميت آكلة الأكباد وعير به نسلها إلى آخر الدهر وجعل بعلها يضرب بزج رمحه في شدق حمزة وهو ميت ويقول ذق عقق ولما بويع عثمان جاء أبو سفيان إلى قبر حمزة فرفسه برجله وقال يا أبا عمارة إن الذي تقاتلنا عليه يوم بدر صار في أيدي صبياننا:
- يجنون ما غرست يداك قضية * ألقت على شهب العقول خمودا - فلما انتهى رسول الله ص إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة وقال اغسلي عن هذا دمه يا بنية وناولها علي ع سيفه وقد خضب الدم يده إلى كتفه فقال وهذا فاغسلي عنه فوالله لقد صدقني اليوم وأنشأ يقول:
- أ فاطم هاك السيف غير ذميم * فلست برعديد ولا بمليم - - لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد * وطاعة رب بالعباد عليم -