قال ذلك بمكة لبريدة وحده ثم لما وصل إلى غدير خم أحب ان يقوله للصحابة عموما يكذبه ما سمعته من قول أبي سعيد الخدري أحد الصحابة فقام فينا خطيبا اي قام في الصحابة عموما وأعلن ذلك في خطبته على المنبر وعلى رؤوس الاشهاد وقوله ذلك بمكة أعم وأشمل لوجود الحاج كلهم ومنهم أهل مكة وما حولها الذين لم يكونوا معه في غدير خم فلو كان الغرض تبليغ عموم الصحابة ما وقع في مسالة اليمن لما اخره إلى غدير خم ولكنه لما نزل عليه قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته وهو في الطريق بلغهم إياه في غدير خم حين نزلت عليه الآية فهما واقعتان لا دخل لاحداهما في الأخرى، وخلط إحداهما بالأخرى نوع من الخلط والخبط والغمط مع أنك ستعرف وعرفت ان في روايات الغدير انه وقف حتى لحقه من بعده وامر برد من كان تقدم وهذا يدل على أنه لأمر حدث في ذلك المكان وهو نزول الوحي عليه ولو كان لتبليغ عموم الصحابة لم يؤخره إلى غدير خم بل كان يقوله في بعض المنازل قبله أو في مكة فامره بالنزول وهو في أثناء السير وانتظار من تخلف وأمره برد من تقدم يدل على أنه لأمر حدث في ذلك الوقت مع أنه قال هذا الكلام عقيب الامر بالتمسك بالكتاب والعترة وبيان انهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض الذي هو تمهيد لما بعده، فدل على أنه لأمر أهم من مسالة اليمن على اننا انما نستدل بقوله من كنت مولاه فعلي مولاه عقيب قوله أ لست أولي بالمؤمنين من أنفسهم سواء أ قال ذلك بمكة أم في غدير خم وسواء أ قاله عقيب شكايتهم من علي أم لا فإنه دال على أن عليا أولى بالمؤمنين من أنفسهم والإمامة والخلافة لا تزيد على ذلك كما مر، وقد أجاب صاحب السيرة الحلبية عن الحديث بوجوه عمدتها ما يأتي:
أحدهما ان الشيعة اتفقوا على اعتبار التواتر فيما يستدلون به على الإمامة من الأحاديث وهذا الحديث مع كونه آحادا طعن في صحته جماعة من أئمة الحديث كابي داود وأبي حاتم الرازي ويرده ان الحديث لا يقصر عن درجة المتواتر بمعنى المقطوع الصدور فقد رواه علماء الفريقين ومحدثوهم بأسانيد صحيحة تزيد عن عدد التواتر وقد رواه عن النبي ص ثلاثون صحابيا واعترف لعلي به عدد كثير من الصحابة لما نشدهم في مسجد الكوفة ودعا على من أنكر فاستجيب دعاؤه فيه كما ستعرف، ولم يكن في الدوحات أحد الا سمع ورأى ما جرى فيه وهم يزيدون على مائة ألف وقد اعترف الحافظ الذهبي بتواتره فيما يأتي حيث قال وصدر الحديث متواتر أتيقن ان رسول الله ص قاله واما زيادة اللهم وال من والاه فزيادة قوية الاسناد اه وقد أفرد هذا الحديث بالتأليف حتى أن ابن جرير الطبري وناهيك به جمع مجلدين في طرقه وألفاظه وقد أثبت تواتره السيد حامد حسين الهندي اللكهنوئي من أجلاء علماء الهند في هذا العصر في كتابه عبقات الأنوار فذكر من رواه من الصحابة ومن رواه عنهم من التابعين ومن رواه عن التابعين من تابعي التابعين ومن أخرجه في كتابه من المحدثين على ترتيب القرون والطبقات ومن وثق الراوين والمخرجين له ومن وثق من وثقهم وهكذا في طرز عجيب لم يسبقه إليه أحد. قال ابن كثير الشامي في تاريخه، اعتنى بأمر هذا الحديث يعني حديث الغدير أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ فجمع فيه مجلدين اورد فيهما طرقه وألفاظه وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر صاحب تاريخ دمشق اورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة يعني خطبة يوم الغدير اه ثم اورد ابن كثير أحاديث كثيرة جدا مما ورد في يوم الغدير نقلها من كتاب ابن جرير المشار إليه ويأتي نقل بعضها، واما طعن أبي داود وأبي حاتم فيه الذي لا منشأ له الا التحامل فهو قد قال فيما يأتي انه لا يلتفت إليه.
ثانيها ان اسم المولى يطلق على عشرين معنى منها انه السيد الذي ينبغي محبته ويجتنب بغضه وأيد ذلك بما مر عنه من أن بريدة لما جاء من اليمن مع علي شكا بريدة عليا إلى النبي ص فقال ذلك لبريدة خاصة ثم أحب ان يقوله للصحابة عموما في غدير خم أي فكما عليهم ان يحبوني عليهم ان يحبوا عليا ويرده ان اسم المولى لو كان يطلق على ألف معنى فالمراد به هنا الأولى لاقترانه بقوله أ لست أولي بكم من أنفسكم فقالوا بلى قال من كنت مولاه فعلي مولاه كما مر تفصيله، على أن هذا الاهتمام العظيم من النبي ص بجمع الناس في غدير خم والخطبة ورفع علي معه واخذه بضبعيه حتى بان بياض إبطيهما لا يناسب ان يكون الغرض منه ان يعلمهم ان عليهم ان يحبوا عليا كما عليهم ان يحبوه مع كون ذلك أمرا ثابتا في حق كل مسلم لا يختص به علي.
ثالثها مع تسليم ان المراد أنه أولي بالإمامة فالمراد في المال لا في الحال قطعا والا لكان هو الامام مع وجود النبي ص والمال لم يعين وقته فيجوز أن يكون بعد أن يبايع بالخلافة وأيده بأنه لم يحتج بذلك الا بعد أن صارت الخلافة إليه.
ويرده انه لم يقل أحد أن معنى الحديث انه أولي بالإمامة بل أولي بالمؤمنين من أنفسهم فيكون هو الامام بعد النبي ص لأن الإمامة لا تزيد على ذلك واما في حياة النبي ص فقد علم أنه ليس للناس امام غيره، واما إرادة انه أولي بالمؤمنين من أنفسهم في زمن خلافته فتقييد بلا مقيد. واما عدم احتجاجه بذلك قبل زمن خلافته فلأن القول الفصل حينئذ لم يكن للكلام والاحتجاج بل كان للسيف والقوة، وما ينفع الاحتجاج فيمن يقول والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة ويجئ بعلي والزبير ويقول لتبايعان وأنتما طائعان أو لتبايعان وأنتما كارهان كما مر في الجزء الثاني عن الطبري ويقول لعلي انك لست متروكا حتى تبايع. ويدعو بالحطب ويحلف لتخرجن أو لأحرقن الدار عليكم فيقال له ان فيها فاطمة فيقول وإن، كما مر عن ابن قتيبة هناك أيضا ويمكن أن يكون ترك الاحتجاج به لأن فيه ما لا يمكن أن يتحملوه منه فيقع ما لا تحمد عقباه مع علمه بعدم الفائدة فعدل إلى الاحتجاج بالقرابة وبأنه أحق وما غاب عنا لا يمكننا الإحاطة بجميع خصوصياته لا سيما مع اعتراض الأهواء والعصبيات.
وروى الواحدي النيسابوري في كتاب أسباب النزول بسنده عن أبي سعيد الخدري قال نزلت هذه الآية يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك يوم غدير خم في علي بن أبي طالب. وروى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده وأبو يعلي الموصلي والحسن بن سفيان فيما حكاه عنهما ابن كثير في تاريخه فأسانيدهم عن البراء بن عازب قال: كنا مع رسول الله ص في سفر في حجة الوداع فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله ص تحت شجرة فصلى الظهر واخذ بيد علي فاقامه عن يمينه فقال أ لستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم أ لست أولى بكل امرئ من نفسه قالوا بلى فاخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فلقيه عمر بعد ذلك فقال هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت ولي كل مؤمن ومؤمنة. وروى الحاكم في