المراد بقوله (فإنهم عدو لي) آباؤهم الأقدمون لأجل عبادتهم الأصنام، ورد بأن الكلام مسوق فيما عبدوه لا في العابدين، والاستثناء في قوله (إلا رب العالمين) منقطع: أي لكن رب العالمين ليس كذلك، بل هو ولي في الدنيا والآخرة. قال الزجاج: قال النحويون: هو استثناء ليس من الأول، وأجاز الزجاج أيضا أن يكون من الأول على أنهم كانوا يعبدون الله عز وجل ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله. قال الجرجاني: تقديره أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين فإنهم عدو لي، فجعله من باب التقديم والتأخير، وجعل إلا بمعنى دون وسوى كقوله - لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى - أي دون الموتة الأولى. وقال الحسن بن الفضل: إن المعنى إلا من عبد رب العالمين، ثم وصف رب العالمين بقوله (الذي خلقني فهو يهدين) أي فهو يرشدني إلى مصالح الدين والدنيا. وقيل إن الموصول مبتدأ وما بعده خبره، والأول أولى.
ويجوز أن يكون الموصول بدلا من رب، وأن يكون عطف بيان له، وأن يكون منصوبا على المدح بتقدير أعني أو أمدح، وقد وصف الخليل ربه بما يستحق العبادة لأجله، فإن الخلق والهداية والرزق يدل عليه قوله (والذي هو يطعمني ويسقين) ودفع ضر المرض، وجلب نفع الشفاء، والإماتة والإحياء، والمغفرة للذنب، كلها نعم يجب على المنعم عليه ببعضها فضلا عن كلها أن يشكر المنعم بجميع أنواع الشكر التي أعلاها وأولاها العبادة، ودخول هذه الضمائر في صدور هذه الجمل للدلالة على أنه الفاعل لذلك دون غيره، وأسند المرض إلى نفسه دون غيره من هذه الأفعال المذكورة رعاية للأدب مع الرب، وإلا فالمرض وغيره من الله سبحانه، ومراده بقوله (ثم يحيين) البعث، وحذف الياء من هذه الأفعال لكونها رؤوس الآي. وقرأ ابن أبي إسحاق هذه الأفعال كلها بإثبات الياء، وإنما قال عليه الصلاة والسلام (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) هضما لنفسه، وقيل إن الطمع هنا بمعنى اليقين في حقه، وبمعنى الرجاء في حق سواه. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق " خطاياي " قالا: ليست خطيئته واحدة. قال النحاس: خطيئة بمعنى خطايا في كلام العرب. قال مجاهد: يعنى بخطيئته قوله - بل فعله كبيرهم هذا -، وقوله - إني سقيم - وقوله إن سارة أخته، زاد الحسن: وقوله للكوكب - هذا ربي - وحكى الواحدي عن المفسرين أنهم فسروا الخطايا بما فسرها به مجاهد. قال الزجاج: الأنبياء بشر، ويجوز أن تقع عليهم الخطيئة إلا أنهم لا تكون منهم الكبيرة لأنهم معصومون، والمراد بيوم الدين يوم الجزاء للعباد بأعمالهم، ولا يخفى أن تفسير الخطايا بما ذكره مجاهد ومن معه ضعيف، فإن تلك معاريض، وهي أيضا إنما صدرت عنه بعد هذه المقاولة الجارية بينه وبين قومه. ثم لما فرغ الخليل من الثناء على ربه والاعتراف بنعمه عقبه بالدعاء ليقتدي به غيره في ذلك، فقال (رب هب لي حكما) والمراد بالحكم العلم والفهم، وقيل النبوة والرسالة، وقيل المعرفة بحدود الله وأحكامه إلى اخره (وألحقني بالصالحين) يعني بالنبيين من قبلي، وقيل بأهل الجنة (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) أي اجعل لي ثناء حسنا في الآخرين الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة. قال القتيبي: وضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون به، وقد تكنى العرب بها عن الكلمة، ومنه قول الأعشى:
* إني أتتني لسان لا أسر بها * وقد أعطى الله سبحانه إبراهيم ذلك بقوله (وتركنا عليه في الآخرين) فإن كل أمة تتمسك به وتعظمه. وقال مكي: قيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق، فأجيبت دعوته في محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا وجه لهذا التخصيص. وقال القشيري: أراد الدعاء الحسن إلى قيام الساعة، ولا وجه لهذا أيضا، فإن لسان الصدق أعم من ذلك (واجعلني من ورثة جنة النعيم) من ورثة يحتمل أن يكون مفعولا ثانيا، وأن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني: أي وارثا من ورثة جنة النعيم، لما طلب عليه