ابن عباس رضي الله عنه كما سيأتي بيانه آخر البحث، وتابعه على ذلك عكرمة والسدي وغيرهما. ثم اختلفوا في الآية اختلافا آخر. فقال قوم: إنه يريد كفر الكافر ولا يرضاه، وقال آخرون: إنه لا يريده ولا يرضاه، والكلام في تحقيق مثل هذا يطول جدا. وقد استدل القائلون بتخصيص هذه الآية، والمثبتون للإرادة مع عدم الرضا بما ثبت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز أنه سبحانه - يضل من يشاء ويهدي من يشاء وما تشاءون إلا أن يشاء الله - ونحو هذا مما يؤدي معناه كثير في الكتاب العزيز. ثم لما ذكر سبحانه أن لا يرضى لعباده الكفر بين أنه يرضى لهم الشكر فقال (وإن تشكروا يرضه لكم) أي يرض لكم الشكر المدلول عليه بقوله وإن تشكروا ويثبكم عليه، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه - لئن شكرتم لأزيدنكم - قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم بإسكان الهاء من يرضه، وأشبع الضمة على الهاء ابن ذكوان وابن كثير والكسائي وابن محيصن وورش عن نافع، واختلس الباقون (ولا تزر وازرة وزر أخرى) أي لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى (ثم إلى ربكم مرجعكم) يوم القيامة (فينبئكم بما كنتم تعملون) من خير وشر، وفيه تهديد شديد (إنه عليم بذات الصدور) أي بما تضمره القلوب وتستره، فكيف بما تظهره وتبديه (وإذا مس الإنسان ضر) أي ضر كان من مرض أو فقر أو خوف (دعا ربه منيبا إليه) أي راجعا إليه مستغيثا به في دفع ما نزل به تاركا لما كان يدعوه ويستغيث به من ميت أو حي أو صنم أو غير ذلك (ثم إذا خوله نعمة منه) أي أعطاء وملكه، يقال خوله الشئ أي ملكه إياه، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد:
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا * وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا ومنه قول أبي النجم:
أعطى ولم يبخل ولم يبخل * كوم الذرى من خول المخول (نسي ما كان يدعو إليه من قبل) أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه من قبل أن يخوله ما خوله وقيل نسي الدعاء الذي كان يتضرع به وتركه أو نسي ربه الذي كان يدعوه ويتضرع إليه، ثم جاوز ذلك إلى الشرك بالله، وهو معنى قوله (وجعل لله أندادا) أي شركاء من الأصنام أو غيرها يستغيث بها ويعبدها (ليضل عن سبيله) أي ليضل الناس عن طريق الله التي هي الإسلام والتوحيد. وقال السدي: يعني أندادا من الرجال يعتمد عليهم في جميع أموره. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهدد من كان متصفا بتلك الصفة فقال (قل تمتع بكفرك قليلا) أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا، فمتاع الدنيا قليل، ثم علل ذلك بقوله (إنك من أصحاب النار) أي مصيرك إليها عن قريب، وفيه من التهديد أمر عظيم. قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه التهديد والوعيد قرأ الجمهور " ليضل " بضم الياء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتحها. ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين فقال (أمن هو قانت آناء الليل) وهذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى ذلك الكافر أحسن حالا ومآلا، أمن هو قائم بطاعات الله في السراء والضراء في ساعات الليل، مستمر على ذلك، غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند نزول الضرر به. قرأ الحسن وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي " أمن " بالتشديد، وقرأ نافع وابن كثير وحمزة ويحيى بن وثاب والأعمش بالتخفيف، فعلى القراءة الأولى أم داخلة على من الموصولة وأدغمت الميم في الميم وأم هي المتصلة ومعادلها محذوف تقديره: الكافر خير أم الذي هو قانت. وقيل هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة