سواء كان خافيا أو باديا سرا أو جهرا مظهرا أو مضمرا. وتقديم السر على الجهر للمبالغة في شمول علمه لجميع المعلومات، وجملة (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة) مستأنفة مسوقة لبيان إقامة الحجة على من أنكر البعث وللتعجيب من جهله، فإن مشاهدة خلقهم في أنفسهم على هذه الصفة من البداية إلى النهاية مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام وردها كما كانت، والإنسان المذكور في الآية المراد به جنس الإنسان كما في قوله - أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا - ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين كما قيل: إنه عبد الله بن أبي، وأنه قيل له ذلك لما أنكر البعث. وقال الحسن: هو أمية بن خلف. وقال سعيد بن جبير:
هو العاص بن وائل السهمي. وقال قتادة ومجاهد: هو أبي بن خلف الجمحي، فإن أحد هؤلاء وإن كان سببا للنزول فمعنى الآية خطاب الإنسان من حيث هو، لا إنسان معين، ويدخل من كان سببا للنزول تحت جنس الإنسان دخولا أوليا، والنطفة هي اليسير من الماء، وقد تقدم تحقيق معناها (فإذا هو خصيم مبين) هذه الجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها داخلة معها في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، وإذا هي الفجائية: أي ألم ير الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء، ففجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله وبراهينه، والخصيم الشديد الخصومة الكثير الجدال، ومعنى المبين: المظهر لما يقوله الموضح له بقوة عارضته وطلاقة لسانه، وهكذا جملة (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه) معطوفة على الجملة المنفية داخله في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، فهي تكميل للتعجيب من حال الإنسان وبيان جهله بالحقائق وإهماله للتفكر في نفسه فضلا عن التفكر في سائر مخلوقات الله، ويجوز أن تكون جملة (فإذا هو خصيم) معطوفة على خلقنا، وهذه معطوفة عليها: أي أورد في شأننا قصة غريبة كالمثل: وهي إنكاره أحيانا للعظام، ونسي خلقه: أي خلقنا إياه. وهذه الجملة معطوفة على ضرب، أو في محل نصب على الحال بتقدير قد، وجملة (قال من يحيي العظام وهي رميم) استئناف جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل ما هذا المثل الذي ضربه؟ فقيل قال: من يحيي العظام وهي رميم، وهذا الاستفهام للإنكار لأنه قاس قدرة الله على قدرة العبد، فأنكر أن الله يحيي العظام البالية حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر، يقال رم العظم يرم رما إذا بلى فهو رميم ورمام وإنما قال رميم ولم يقل رميمة مع كونه خبرا للمؤنث لأنه اسم لما بلى من العظام غير صفة كالرمة والرفات. وقيل لكونه معدولا عن فاعلة وكل معدول عن وجهه يكون مصروفا عن إعرابه كما في قوله - وما كانت أمك بغيا - لأنه مصروف عن باغية، كذا قال البغوي والقرطبي وقال بالأول صاحب الكشاف.
والأولى أن يقال إنه فعيل بمعنى فاعل أو مفعول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث كما قيل في جريح وصبور. ثم أجاب سبحانه عن الضارب لهذا المثل فقال (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) أي ابتدأها وخلقها أول مرة من غير شئ، ومن قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الثانية (وهو بكل شئ عليم) لا يخفى عليه خافية ولا يخرج عن علمه خارج كائنا من كان. وقد استدل أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة.
وقال الشافعي: لا تحله الحياة وأن المراد بقوله " من يحيي العظام " من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف، ورد بأن هذا التقدير خلاف الظاهر (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) هذا رجوع منه سبحانه إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم، فنبه سبحانه على وحدانيته ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه من إخراج النار المحرقة من العود الندي الرطب، وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ والشجر المعروف بالعفار إذا قطع منهما عودان وضرب أحدهما على الآخر انقدحت النار وهما أخضران. قيل المرخ هو الذكر والعفار هو الأنثى، ويسمى الأول الزند والثاني الزندة، وقال الأخضر ولم يقل الخضراء اعتبارا باللفظ. وقرئ " الخضر " اعتبارا