واختلف سيبويه ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب؟ فذهب سيبويه إلى أنه يجاب الاستفهام، وذهب يونس إلى أنه يجاب الشرط، وعلى القولين فالجواب هنا محذوف: أي أئن ذكرتم فطائركم معكم لدلالة ما تقدم عليه. وقرأ الماجشون " أن ذكرتم " بهمزة مفتوحة: أي لأن ذكرتم. ثم أضربوا عما يقتضيه الاستفهام والشرط من كون التذكير سببا للشؤم فقالوا (بل أنتم قوم مسرفون) أي ليس الأمر كذلك، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في المعصية. قال قتادة: مسرفون في تطيركم. وقال يحيى بن سلام: مسرفون في كفركم. وقال ابن بحر:
السرف هنا الفساد، والإسراف في الأصل مجاوزة الحد في مخالفة الحق (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) هو حبيب بن موسى النجار، وكان نجارا، وقيل إسكافا، وقيل قصارا. وقال مجاهد ومقاتل: هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام. وقال قتادة: كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى، وجملة (قال يا قوم اتبعوا المرسلين) مستأنفة جواب سؤال مقدر: كأنه قيل فماذا قال لهم عند مجيئه؟ فقيل: قال يا قوم اتبعوا المرسلين هؤلاء الذين أرسلوا إليكم فإنهم جاءوا بحق. ثم أكد ذلك وكرره فقال (اتبعوا من لا يسألكم أجرا) أي لا يسألونكم أجرا على ما جاءوكم به من الهدى (وهم مهتدون) يعني الرسل. ثم أبرز الكلام في معرض النصيحة لنفسه، وهو يريد مناصحة قومه فقال (وما لي لا أعبد الذي فطرني)؟ أي أي مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني. ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه، بل أرادهم بكلامه فقال (وإليه ترجعون) ولم يقل إليه أرجع، وفيه مبالغة في التهديد. ثم عاد إلى المساق الأول لقصد التأكيد ومزيد الايضاح فقال (أأتخذ من دونه آلهة) فجعل الإنكار متوجها إلى نفسه، وهم المرادون به: أي لا أتخذ من دون الله آلهة وأعبدها، وأترك عبادة من يستحق العبادة وهو الذي فطرني. ثم بين حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكارا عليهم، وبيانا لضلال عقولهم وقصور إدراكهم فقال (إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا) أي شيئا من النفع كائنا ما كان (ولا ينقذون) من ذلك الضر الذي أرادني الرحمن به، وهذه الجملة صفة لآلهة، أو مستأنفة لبيان حالها في عدم النفع والدفع، وقوله (لا تغن) جواب الشرط، وقرأ طلحة بن مصرف " إن يردني " بفتح الياء، قال (إني إذا لفي ضلال مبين) أي إني إذا اتخذت من دونه آلهة لفي ضلال مبين واضح، وهذا تعريض بهم كما سبق، والضلال الخسران. ثم صرح بإيمانه تصريحا لا يبقى بعده شك فقال (إني آمنت بربكم فاسمعون) خاطب بهذا الكلام المرسلين. قال المفسرون: أرادوا القوم قتله، فأقبل هو على المرسلين، فقال: إني آمنت بربكم أيها الرسل فاسمعون: أي اسمعوا إيماني واشهدوا لي به. وقيل إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلبا في الدين وتشددا في الحق، فلما قال هذا القول وصرح بالإيمان وثبوا عليه فقتلوه، وقيل وطئوه بأرجلهم، وقيل حرقوه، وقيل حفروا له حفيرة وألقوه فيها، وقيل إنهم لم يقتلوه بل رفعه الله إلى السماء فهو في الجنة، وبه قال الحسن، وقيل نشروه بالمنشار (قيل ادخل الجنة) أي قيل له ذلك تكريما له بدخولها بعد قتله كما هي سنة الله في شهداء عباده. وعلى قول من قال إنه رفع إلى السماء ولم يقتل يكون المعنى: أنهم لما أرادوا قلته نجاه الله من القتل، وقيل له ادخل الجنة فلما دخلها وشاهدها (قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي وجعلني من المكرمين) والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر: أي فماذا قال بعد أن قيل له ادخل الجنة فدخلها، فقيل قال يا ليت قومي الخ، وما في (بما غفر لي) هي المصدرية: أي بغفران ربي، وقيل هي الموصولة: أي بالذي غفر لي ربي، والعائد محذوف: أي غفره لي ربي، واستضعف هذا لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة، وليس المراد إلا التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له. وقال الفراء: إنها استفهامية بمعنى التعجب، كأنه قال: بأي شئ غفر لي