ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من أنواع كفرهم، فقال (وإذا تتلى عليهم آياتنا) أي الآيات القرآنية حال كونها (بينات) واضحات الدلالات ظاهرات المعاني (قالوا ما هذا) يعنون التالي لها، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم) أي أسلافكم من الأصنام التي كانوا يعبدونها (وقالوا) ثانيا (ما هذا) يعنون القرآن الكريم (إلا إفك مفترى) أي كذب مختلق (وقال الذين كفروا) ثالثا (للحق لما جاءهم) أي لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم (إن هذا إلا سحر مبين) وهذا الإنكار منهم خاص بالتوحيد، وأما إنكار القرآن والمعجزة فكان متفقا عليه بين أهل الكتاب والمشركين، وقيل أريد بالأول، وهو قولهم (إلا إفك مفترى) معناه، وبالثاني، وهو قولهم (إن هذا إلا سحر مبين) نظمه المعجز. وقيل إن طائفة منهم قالوا: إنه إفك، وطائفة قالوا: إنه سحر، وقيل إنهم جميعا قالوا تارة إنك إفك، وتارة إنه سحر، والأول أولى (وما آتيناهم من كتب يدرسونها) أي ما أنزلنا على العرب كتبا سماوية يدرسون فيها (وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) يدعوهم إلى الحق وينذرهم بالعذاب، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه، ولا شبهة يتشبثون بها.
قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتابا قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبيا قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال الفراء: أي من أين كذبوك، ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه. ثم خوفهم سبحانه وأخبر عن عاقبتهم وعاقبة من كان قبلهم فقال (وكذب الذين من قبلهم) من القرون الخالية (وما بلغوا معشار ما آتيناهم) أي ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوة وكثرة المال وطول العمر فأهلكهم الله، كعاد وثمود وأمثالهم. والمعشار: هو العشر. قال الجوهري: معشار الشئ عشره. وقيل المعشار:
عشر العشر، والأول أولى. وقيل إن المعنى: ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى. وقيل ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم، وقيل ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة والبرهان، والأول أولى. وقيل: المعشار عشر العشير، والعشير عشر العشر، فيكون جزءا من ألف جزء. قال الماوردي: وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل قلت مراعاة المبالغة في التقليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي، وقوله (فكذبوا رسلي) عطف على (كذب الذين من قبلهم) على طريقة التفسير كقوله - كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا - الآية، والأولى أن يكون من عطف الخاص على العام، لأن التكذيب الأول لما حذف منه المتعلق للتكذيب أفاد العموم، فمعناه: كذبوا الكتب المنزلة والرسل المرسلة والمعجزات الواضحة، وتكذيب الرسل أخص منه، وإن كان مستلزما له فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الإلتزامية (فكيف كان نكير) أي فكيف كان إنكاري لهم بالعذاب والعقوبة، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك، قيل وفي الكلام حذف، والتقدير: فأهلكناهم فكيف كان نكير، والنكير اسم بمعنى الإنكار. ثم أمر سبحانه رسوله أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها فقال (قل إنما أعظكم بواحدة) أي أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وأوصيكم بخصلة واحدة، وهي (أن تقوموا لله مثنى وفرادى) هذا تفسير للخصلة الواحدة، أو بدل منها: أي هي قيامكم وتشميركم في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا، لأن الاجتماع يشوش الفكر، وليس المراد القيام على الرجلين، بل المراد القيام بطلب الحق وإصداق الفكر فيه، كما يقال قام فلان بأمر كذا (ثم تتفكروا) في أمر