لما خوفهم سبحانه بأحوال الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم) أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار بغيرهم، فإن الذين مضوا من الكفار (كانوا هم أشد منهم قوة) من هؤلاء الحاضرين من الكفار وأقوى (وآثارا في الأرض) بما عمروا فيها من الحصون والقصور وبما لهم من العدد والعدة، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله، وقوله - فينظروا - إما مجزوم بالعطف على يسيروا، أو منصوب بجواب الاستفهام، وقوله (كانوا أشد منهم قوة) بيان للتفاوت بين حال هؤلاء وأولئك، وقوله (وآثارا) عطف على قوة. قرأ الجمهور " أشد منهم " وقرأ ابن عامر " أشد منكم " على الالتفات (فأخذهم الله بذنوبهم) أي بسبب ذنوبهم (وما كان لهم من الله من واق) أي من دافع يدفع عنهم العذاب، وقد مر تفسير هذه الآية في مواضع، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم من الأخذ (بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات) أي بالحجج الواضحة (فكفروا) بما جاءوهم به (فأخذهم الله إنه قوي) يفعل كل ما يريده لا يعجزه شئ (شديد العقاب) لمن عصاه ولم يرجع إليه، ثم ذكر سبحانه قصة موسى وفرعون ليعتبروا فقال (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) هي التسع الآيات التي قد تقدم ذكرها في غير موضع (وسلطان مبين) أي حجة بينة واضحة، وهي التوراة (إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا) إنه (ساحر كذاب) أي فيما جاء به، وخصهم بالذكر لأنهم رؤساء المكذبين بموسى، ففرعون الملك، وهامان الوزير، وقارون صاحب الأموال والكنوز (فلما جاءهم بالحق من عندنا) وهي معجزاته الظاهرة الواضحة (قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم) قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون قد كان أمسك عن قتل الولدان وقت ولادة موسى، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل، فكان يأمر بقتل الذكور وترك النساء، ومثل هذا قول فرعون - سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم - (وما كيد الكافرين إلا في ضلال) أي في خسران ووبال، لأنه يذهب باطلا ويحيق بهم ما يريده الله عز وجل (وقال فرعون ذروني أقتل موسى) إنما قال هذا لأنه كان في خاصة قومه يمنعه من قتل موسى مخافة أن ينزل بهم العذاب، والمعنى: اتركوني أقتله (وليدع ربه) الذي يزعم أنه أرسله إلينا فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك: أي لا يهولنكم ذلك فإنه لا رب له حقيقة، بل أنا ربكم الأعلى، ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله فقال (إني أخاف أن يبدل دينكم) الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ويدخلهم في دينه الذي هو عبادة الله وحده (أو أن يظهر في الأرض الفساد) أي يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، جعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فسادا، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه.
قرأ الكوفيون ويعقوب " أو أن يظهر " بأو التي للإبهام، والمعنى: أنه لا بد من وقوع أحد الأمرين. وقرأ الباقون " وأن يظهر " بدون ألف على معنى وقوع الأمرين جميعا، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من " إني أخاف " وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص يظهر بضم الياء وكسر الهاء من أظهر، وفاعله ضمير موسى، والفساد نصبا على أنه مفعول به، وقرأ الباقون بفتح الياء والهاء، ورفع الفساد على الفاعلية (وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " عذت " بإدغام الذال، وقرأ الباقون بالإظهار، لما هدده فرعون بالقتل استعاذ بالله عز وجل من كل متعظم عن الإيمان بالله غير مؤمن بالبعث والنشور، ويدخل فرعون في هذا العموم دخولا أوليا (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) قال الحسن ومقاتل والسدي: كان قبطيا وهو ابن عم فرعون، وهو الذي نجا مع موسى، وهو المراد بقوله - وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى - الآية، وقيل كان من بني إسرائيل ولم يكن من آل فرعون وهو خلاف ما في