سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالا للباطل والحق وأنهما لا يستويان فقال (وما يستوي الأعمى والبصير) أي الذي يجادل بالباطل، والذي يجادل بالحق (ولا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ) أي ولا يستوي المحسن بالإيمان والعمل الصالح والمسئ بالكفر والمعاصي، وزيادة " لا " في ولا المسئ للتأكيد (قليلا ما يتذكرون) قرأ الجمهور " يتذكرون " بالتحتية على الغيبة، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، لأن قبلها وبعدها على الغيبة لا على الخطاب، وقرأ الكوفيون بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات: أي تذكرا قليلا ما تتذكرون (إن الساعة لآتية لا ريب فيها) أي لا شك في مجيئها وحصولها (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) بذلك ولا يصدقونه لقصور أفهامهم وضعف عقولهم عن إدراك الحجة، والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث. ثم لما بين سبحانه أن قيام الساعة حق لا شك فيه ولا شبهة، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود، فأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه وهو (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) قال أكثر المفسرين المعنى: وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم، وقيل المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضر. قيل الأول أولى لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة. قلت: بل الثاني أولى لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعا هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو عبادة، بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فا الله سبحانه قد أمر عباده بدعائه ووعدهم بالإجابة ووعده الحق، وما يبدل القول لديه ولا يخلف الميعاد. ثم صرح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي وهو الطلب هو من عبادته فقال (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) أي ذليلين صاغرين وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه واستدفاع الشر به بهذا الوعيد البالغ وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم وعولوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه وأرشدكم إلى التعويل عليه وكفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين، قيل وهذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة: أي أستجب لكم إن شئت كقوله سبحانه - فيكشف ما تدعون إليه إن شاء الله - قرأ الجمهور " سيدخلون " بفتح الياء وضم الخاء مبنيا للفاعل، وقرأ ابن كثير وابن محيصن وورش وأبو جعفر بضم الياء وفتح الخاء مبنيا للمفعول. ثم ذكر سبحانه بعض ما أنعم به على عباده فقال (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) من الحركات في طلب الكسب لكونه جعله مظلما باردا تناسبه الراحة بالسكون والنوم (والنهار مبصرا) أي مضيئا لتبصروا فيه حوائجكم وتتصرفوا في طلب معايشكم (إن الله لذو فضل على الناس) يتفضل عليهم بنعمه التي لا تحصى (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) النعم ولا يعترفون بها، إما لجحودهم لها وكفرهم بها كما هو شأن الكفار، أو لإغفالهم للنظر وإهمالهم لما يجب من شكر المنعم، وهم الجاهلون (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو) بين سبحانه في هذا كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده قرأ الجمهور خالق بالرفع على أنه خبر بعد الخبر الأول عن المبتدأ، وقرأ زيد بن علي بنصبه على الاختصاص (فأنى تؤفكون) أي فكيف تنقلبون عن عبادته وتنصرفون عن توحيده (كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون) أي مثل الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله المنكرون لتوحيده. ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من نعمه التي أنعم بها عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية فقال (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء) أي موضع قرار فيها تحيون وفيها تموتون (والسماء بناء): أي سقفا قائما ثابتا. ثم بين بعض
(٤٩٨)