سياق النفي ودخول من الاستغراقية عليها (ويعفو عن كثير) من المعاصي التي يفعلها العباد فلا يعاقب عليها، فمعنى الآية: أنه يكفر عن العبد بما يصيبه من المصائب ويعفو عن كثير من الذنوب. وقد ثبتت الأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا يؤجر عليه أو يكفر عنه من ذنوبه. وقيل هذه الآية مختصة بالكافرين على معنى: أن ما يصابون به بسبب ذنوبهم من غير أن يكون ذلك مكفرا عنهم لذنب ولا محصلا لثواب، ويترك عقوبتهم عن كثير من ذنوبهم فلا يعاجلهم في الدنيا بل يمهلهم إلى الدار الآخرة. والأولى حمل الآية على العموم، والعفو يصدق على تأخير العقوبة كما يصدق على محو الذنب ورفع الخطاب به. قال الواحدي: وهذه أرجى آية في كتاب الله لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين: صنف كفره عنهم بالمصائب، وصنف عفا عنه في الدنيا وهو كريم لا يرجع في عفوه، فهذه سنة الله مع المؤمنين. وأما الكافر فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة (وما أنتم بمعجزين في الأرض) أي بفائتين عليه هربا في الأرض ولا في السماء لو كانوا فيها بل ما قضاه عليهم من المصائب واقع عليهم نازل بهم (وما لكم من دون الله من ولي) يواليكم فيمنع عنكم ما قضاه الله (ولا نصير) ينصركم من عذاب الله في الدنيا ولا في الآخرة. ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آياته العظيمة الدالة على توحيده وصدق ما وعد به فقال (ومن آياته الجوار) قرأ نافع وأبو عمرو " الجواري " بإثبات الياء في الوصل، وأما في الوقف فإثباتها على الأصل وحذفها للتخفيف، وهي السفن واحدتها جارية: أي سائرة (في البحر كالأعلام) أي الجبال جمع علم وهو الجبل، ومنه قول الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار قال الخليل: كل شئ مرتفع عند العرب فهو علم. وقال مجاهد: الأعلام القصور واحدها علم (إن يشأ يسكن الريح) قرأ الجمهور بهمز " يشأ " وقرأ ورش عن نافع بلا همز. وقرأ الجمهور " الريح " بالإفراد. وقرأ نافع " الرياح " على الجمع: أي يسكن الريح التي تجري بها السفن (فيظللن) أي السفن (رواكد) أي سواكن ثوابت (على ظهر) البحر، يقال ركد الماء ركودا: سكن، وكذلك ركدت الريح وركدت السفينة وكل ثابت في مكان فهو راكد. قرأ الجمهور " فيظللن " بفتح اللام الأولى، وقرأ قتادة بكسرها وهي لغة قليلة (إن في ذلك) الذي ذكر من أمر السفن (لآيات) دلالات عظيمة (لكل صبار شكور) أي لكل من كان كثير الصبر على البلوى كثير الشكر على النعماء. قال قطرب: الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر وإذا ابتلى صبر. قال عون ابن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر * وكم من مبتلى غير صابر (أو يوبقهن بما كسبوا) معطوف على يسكن: أي يهلكهن بالغرق، والمراد أهلهن بما كسبوا من الذنوب، وقيل بما أشركوا. والأول أولى، فإنه يهلك في البحر المشرك وغير المشرك، يقال أوبقه: أي أهلكه (ويعف عن كثير) من أهلها بالتجاوز عن ذنوبهم فينجيهم من الغرق. قرأ الجمهور " يعف " بالجزم عطفا على جواب الشرط.
قال القشيري: وفي هذه القراءة إشكال لأن المعنى: إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكد أو يهلكها بذنوب أهلها فلا يحسن عطف " يعف " على هذا، لأنه يصير المعنى: أن يشأ يعف وليس المعنى ذلك، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى، وقد قرأ قوم " ويعفو " بالرفع وهي جيدة في المعنى. قال أبو حيان: وما قاله ليس بجيد إذ لم يفهم مدلول التركيب، والمعنى: إلا أنه تعالى أهلك ناسا وأنجى ناسا على طريق العفو عنهم، وقرأ الأعمش " ويعفو " بالرفع، وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار أن بعد الواو كما في قول النابغة: