يعرفن) أي أقرب أن يعرفن فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر (فلا يؤذين) من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن، وليس المراد بقوله (ذلك أدنى أن يعرفن) أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر (وكان الله غفورا) لما سلف منهن من ترك إدناء الجلابيب (رحيما) بهن أو غفور الذنوب المذنبين رحيما بهم فيدخلن في ذلك دخولا أوليا. ثم توعد سبحانه أهل النفاق والإرجاف فقال (لئن لم ينته المنافقون) عما هم عليه من النفاق (والذين في قلوبهم مرض) أي شك وريبة عما هم عليه من الاضطراب (والمرجفون في المدينة) عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين وظهور المشركين عليهم. قال القرطبي: أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشئ واحد، والمعنى: أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين، فهو على هذا من باب قوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم أي إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة. وقال عكرمة وشهر بن حوشب: الذين في قلوبهم مرض هم الزناة.
والإرجاف في اللغة: إشاعة الكذب والباطل، يقال أرجف بكذا: إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت، من الرجفة وهي الزلزلة. يقال رجفت الأرض: أي تحركت وتزلزلت ترجف رجفا، والرجفان: الاضطراب الشديد، وسمي البحر رجافا لاضطرابه، ومنه قول الشاعر:
المطعمون اللحم كل عشية * حتى تغيب الشمس في الرجاف والإرجاف واحد الأراجيف، وأرجفوا في الشئ خاضوا فيه، ومنه قول شاعر:
فانا وان عيرتمونا بقلة * وأرجف بالإسلام باغ وحاسد وقول الآخر:
أبا لأراجيف يا بن اللوم توعدني * وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا، وتارة بأنهم قتلوا، وتارة بأنهم غلبوا ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار، فتوعدهم الله سبحانه بقوله (لنغرينك بهم) أي لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك. قال المبرد: قد أغراه الله بهم في قوله بعد هذه الآية (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم: أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وأقول ليس هذا بحسن ولا أحسن، فإن قوله ملعونين الخ، إنما هو لمجرد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتالهم ولا تسليط لهم عليهم، وقد قيل إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف فلم يغره الله بهم، وجملة (لنغرينك بهم) جواب القسم، وجملة (ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا) معطوفة على جملة جواب القسم: أي لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا، وانتصاب (ملعونين) على الحال كما قال المبرد وغيره، والمعنى مطرودين (أينما) وجودوا وأدركوا (أخذوا وقتلوا) دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا (تقتيلا) وقيل إن هذا هو الحكم فيهم وليس بدعاء عليهم، والأول أولى. وقيل معنى الآية: أنهن إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم مطرودون (سنة الله في الذين خلوا من قبل) أي سن الله ذلك في الأمم الماضية، وهو لعن المنافقين وأخذهم