ثم ذكر سبحانه من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في داود - فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب - وقال في سليمان - وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب - فقال (ولقد آتينا داود منا فضلا) أي آتيناه بسبب إنابته فضلا منا على سائر الأنبياء. واختلف في هذا الفضل على أقوال: فقيل النبوة، وقيل الزبور، وقيل العلم، وقيل القوة كما في قوله - واذكر عبدنا داود ذا الأيد - وقيل تسخير الجبال كما في قوله (يا جبال أوبي معه) وقيل التوبة وقيل الحكم بالعدل كما في قوله - يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق - وقيل هو إلانة الحديد كما في قوله (وألنا له الحديد) وقيل حسن الصوت، والأولى أن يقال: إن هذا الفضل المذكور هو ما ذكره الله بعده من قوله (يا جبال) إلى آخر الآية، وجملة (يا جبال أوبي معه) مقدرة بالقول: أي قلنا يا جبال:
والتأويب: التسبيح كما في قوله - إنا سخرنا الجبال معه يسبحن -. قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة.
وكان إذا سبح داود سبحت معه، ومعنى تسبيح الجبال: أن الله يجعلها قادرة على ذلك، أو يخلق فيها التسبيح معجزة لداود، وقيل معنى أوبي: سيرى معه، من التأويب الذي هو سير النهار أجمع، ومنه قول ابن مقبل:
لحقنا بحي أو بوا السير بعد ما * دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح قرأ الجمهور " أوبي " بفتح الهمزة وتشديد الواو على صيغة الأمر، من التأويب: وهو الترجيع أو التسبيح أو السير أو النوح. وقرأ ابن عباس والحسن قتادة وابن أبي إسحاق " أوبي " بضم الهمزة أمرا من آب يئوب إذا رجع:
أي ارجعي معه. قرأ الجمهور (والطير) بالنصب عطفا على " فضلا " على معنى: وسخرنا له الطير، لأن إيتاءه إياها تسخيرها له، أو عطفا على محل " يا جبال " لأنه منصوب تقديرا، إذ المعنى: نادينا الجبال والطير. وقال سيبويه وأبو عمرو بن العلاء: انتصابه بفعل مضمر على معنى وسخرنا له الطير. وقال الزجاج والنحاس: يجوز أن يكون مفعولا معه كما تقول: استوى الماء والخشبة. وقال الكسائي إنه معطوف على فضلا لكن على تقدير مضاف محذوف أي آتيناه فضلا وتسبيح الطير. وقرأ السلمي والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبد الملك بالرفع عطفا على لفظ الجبال، أو على المضمر في أوبي لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه (وألنا له الحديد) معطوف على آتيناه: أي جعلناه لينا ليعمل به ما شاء. قال الحسن: صار الحديد كالشمع يعمله من غير نار. وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع يصرفه كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة، وكذا قال مقاتل، وكان يفرغ من عمل الدرع في بعض يوم (أن اعمل سابغات) في أن هذه وجهان: أحدهما أنها مصدرية على حذف حرف الجر: أي بأن اعمل، والثاني أنها المفسرة لقوله (وألنا) وفيه نظر لأنها لا تكون إلا بعد القول أو ما هو في معناه. وقدر بعضهم فعلا فيه معنى القول فقال التقدير وأمرناه أن اعمل. وقوله (سابغات) صفة لموصوف محذوف: أي دروعا سابغات، والسابغات الكوامل