ويكون الاستفهام منويا قاله الفراء. وحذف حرفه للعلم به من المقام، أو على أن اصطفى وما بعده بدل من الجملة المحكية بالقول. وعلى تقدير عدم الاستفهام والبدل. فقد حكى جماعة من المحققين منهم الفراء أن التوبيخ يكون باستفهام وبغير استفهام كما في قوله - أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا - وقيل هو على إضمار القول (ما لكم كيف تحكمون) جملتان استفهاميتان ليس لأحدهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب: استفهمهم أولا عما استقر لهم وثبت استفهام بإنكار، وثانيا استفهام تعجب من هذا الحكم الذي حكموا به، والمعنى: أي شئ ثبت لكم كيف تحكمون لله بالبنات وهم القسم الذي تكرهونه، ولكم بالبنين وهم القسم الذي تحبونه (أفلا تذكرون) أي تتذكرون فحذفت إحدى التاءين، والمعنى: ألا تعتبرون وتتفكرون فتتذكرون بطلان قولكم (أم لكم سلطان مبين) أي حجة واضحة ظاهرة على هذا الذي تقولونه، وهو إضراب عن توبيخ إلى توبيخ وانتقال من تقريع إلى تقريع.
(فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) أي فأتوا بحجتكم الواضحة على هذا إن كنتم صادقين فيما تقولونه، أو فأتوا بالكتاب الذي ينطق لكم بالحجة ويشتمل عليها (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) قال أكثر المفسرين: إن المراد بالجنة هنا الملائكة، قيل لهم جنة لأنهم لا يرون. وقال مجاهد: هم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة. وقال أبو مالك:
إنما قيل لهم الجنة لأنهم خزان على الجنان. والنسب الصهر. قال قتادة والكلبي: قالوا لعنهم الله: إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من أولادهم، قالا: والقائل بهذه المقالة اليهود. وقال مجاهد والسدي ومقاتل: إن القائل بذلك كنانة وخزاعة قالوا: إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات الجن. وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله، فهو النسب الذي جعلوه. ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله (ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون) أي علموا أن هؤلاء الكفار الذين قالوا هذا القول يحضرون النار ويعذبون فيها. وقيل علمت الجنة إنهم أنفسهم يحضرون للحساب. والأول أولى، لأن الإحضار إذا أطلق فالمراد لعذاب. وقيل المعنى: ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون إلى الجنة. ثم نزه سبحانه نفسه فقال (سبحان الله عما يصفون) أو هو حكاية لتنزيه الملك لله عز وجل عما وصفه به المشركون، والاستثناء في قوله. (إلا عباد الله المخلصين) منقطع، والتقدير: لكن عباد الله المخلصين بريئون عن أن يصفوا الله بشئ من ذلك. وقد قرئ بفتح اللام وكسرها ومعناهما ما بيناه قريبا. وقيل هو استثناء من المحضرين: أي إنهم يحضرون النار إلا من أخلص، فيكون متصلا لا منقطعا، وعلى هذا تكون جملة التسبيح معترضة. ثم خاطب الكفار على العموم أو كفار مكة على الخصوص فقال (فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين) أي فإنكم وآلهتكم التي تعبدون من دون الله لستم بفاتنين على الله بإفساد عباده وإضلالهم، وعلى متعلقة بفاتنين، والواو في وما تعبدون إما للعطف على اسم إن، أو هو بمعنى مع، وما موصولة أو مصدرية: أي فإنكم والذي تعبدون، أو عبادتكم، ومعنى فاتنين مضلين، يقال فتنت الرجل وأفتنته، ويقال فتنه على الشئ وبالشيء كما يقال أصله على الشئ وأضله به. قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنته، وأهل نجد يقولون أفتنته، ويقال فتن فلان على فلان امرأته: أي أفسدها عليه: فالفتنة هنا بمعنى الإضلال والإفساد. قال مقاتل: يقول ما أنتم بمضلين أحدا بآلهتكم إلا من قدر الله له أن يصلى الجحيم، " وما " في " وما أنتم " نافية " وأنتم " خطاب لهم ولمن يعبدونه على التغليب. قال الزجاج: أهل التفسير مجمعون فيما علمت أن المعنى: ما أنتم بمضلين أحدا إلا من قدر الله عز وجل عليه أن يضل، ومنه قول الشاعر:
فرد بفتنته كيده * عليه وكان لنا فاتنا أي مضلا (إلا من هو صال الجحيم) قرأ الجمهور " صال " بكسر اللام لأنه منقوص مضاف حذفت الياء