(فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) فإن المعنى: زينوا لهم ما بين أيديهم من أمور الدنيا وشهواتها، وحملوهم على الوقوع في معاصي الله بانهماكهم فيها، وزينوا لهم ما خلفهم من أمور الآخرة فقالوا: لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار. وقال الزجاج: ما بين أيديهم ما عملوه، وما خلفهم ما عزموا على أن يعملوه. وروي عن الزجاج أيضا أنه قال: ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنة ولا نار، وما خلفهم من أمر الدنيا (وحق عليهم القول) أي وجب وثبت عليهم العذاب، وهو قوله سبحانه - لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين - و (في أمم) في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم، والمعنى: كائنين في جملة أمم، وقيل في بمعنى مع: أي مع أمم من الأمم الكافرة التي (قد خلت) ومضت (من قبلهم من الجن والإنس) على الكفر، وجملة (إنهم كانوا خاسرين) تعليل لاستحقاقهم العذاب (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن) أي قال بعضهم لبعض لا تسمعوه ولا تنصتوا له، وقيل معنى لا تسمعوا: لا تطيعوا، يقال سمعت لك: أي أطعتك (والغوا فيه) أي عارضوه باللغو والباطل، أو ارفعوا أصواتكم ليتشوش القارئ له. وقال مجاهد: ألغوا فيه بالمكاء والتصدية والتصفيق والتخليط في الكلام حتى يصير لغوا. وقال الضحاك: أكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول. وقال أبو العالية: قعوا فيه وعيبوه. قرأ الجمهور " والغوا " بفتح الغين، من لغا إذا تكلم باللغو، وهو ما لا فائدة فيه، أو من لغى بالفتح يلغى بالفتح أيضا كما حكاه الأخفش، وقرأ عيسى بن عمر والجحدري وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وبكر بن حبيب السهمي وقتادة والسماك والزعفراني بضم الغين. وقد تقدم الكلام في اللغو في سورة البقرة (لعلكم تغلبون) أي لكي تغلبوهم فيسكتوا. ثم توعدهم سبحانه على ذلك فقال (فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا) وهذا وعيد لجميع الكفار، ويدخل فيهم الذين السياق معهم دخولا أوليا (ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون) أي ولنجزينهم في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا. قال مقاتل: وهو الشرك. وقيل المعنى: أنه يجازيهم بمساوئ أعمالهم لا بمحاسنها كما يقع منهم من صلة الأرحام وإكرام الضيف، لأن ذلك باطل لا أجر له مع كفرهم، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم، وهو مبتدأ وخبره جزاء أعداء الله، أو خبر مبتدأ محذوف. أي الأمر ذلك، وجملة (جزاء أعداء الله النار) مبينة للجملة التي قبلها، والأول أولى وتكون النار عطف بيان للجزاء، أو بدلا منه، أو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ والخبر (لهم فيها دار الخلد).
وعلى الثلاثة الوجوه الأولى تكون جملة لهم فيها دار الخلد مستأنفة مقررة لما قبلها، ومعنى دار الخلد: دار الإقامة المستمرة التي لا انقطاع لها (جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون) أي يجزون جزاء بسبب جحدهم بآيات الله. قال مقاتل: يعنى القرآن يجحدون أنه من عند الله، وعلى هذا يكون التعبير عن اللغو بالجحود لكونه سببا له، إقامة للسبب مقام المسبب (وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس) قالوا هذا وهم في النار، وذكره بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه، والمراد أنهم طلبوا من الله سبحانه أن يريهم من أضلهم من فريق الجن والإنس من الشياطين الذين كانوا يسولون لهم ويحملونهم على المعاصي، ومن الرؤساء الذين كانوا يزينون لهم الكفر. وقيل المراد إبليس وقابيل لأنهما سنا المعصية لبني آدم. قرأ الجمهور " أرنا " بكسر الراء. وقرأ ابن محيصن والسوسي عن أبي عمرو وابن عامر بسكون الراء، وبها قرأ أبو بكر والمفضل وهما لغتان بمعنى واحد. وقال الخليل: إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فمعناه بصرنيه وبالسكون أعطنيه (نجعلهما تحت أقدامنا) أي ندسهما بأقدامنا لنشتفي منهم، وقيل نجعلهم أسفل منا في النار (ليكونا من الأسفلين) فيها مكانا، أو ليكونا من الأذلين المهانين، وقيل ليكونوا أشد عذابا منا. ثم لما ذكر عقاب الكافرين وما أعده لهم ذكر حال المؤمنين وما أنعم عليهم