لما قص سبحانه حال من تقدم من الكفار أتبعه بما فيه التسلية لرسوله وبيان أن كفر الأمم السابقة بمن أرسل إليهم من الرسل هو كائن مستمر في الأعصر الأول فقال (وما أرسلنا في قرية) من القرى (من نذير) ينذرهم ويحذرهم عقاب الله (إلا قال مترفوها) أي رؤساؤها وأغنياؤها وجبابرتها وقادة الشر لرسلهم (إنا بما أرسلتم به كافرون) أي بما أرسلتم به من التوحيد والإيمان، وجملة (إلا قال مترفوها) في محل نصب على الحال. ثم ذكر ما افتخروا به من الأموال والأولاد وقاسوا حالهم في الدار الآخرة على حالهم في هذه الدار على تقدير صحة ما أنذرهم به الرسل فقال (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) والمعنى: أن الله فضلنا عليكم بالأموال والأولاد في الدنيا، وذلك يدل على أنه قد رضى ما نحن عليه من الدين وما نحن بمعذبين في الآخرة بعد إحسانه إلينا في الدنيا ورضاه عنا، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيب عنهم وقال (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء) أن يبسطه له (ويقدر) أي يضيق على من يشاء أن يضيقه عليه، فهو سبحانه قد يرزق الكافر والعاصي استدراجا له، وقد يمتحن المؤمن المطيع بالتقتير توفيرا لأجره، وليس مجرد بسط الرزق لمن بسطه له يدل على أنه قد رضي عنه ورضي عمله، ولا قبضه عمن قبضه عنه يدل على أنه لم يرضه ولا رضى عمله، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مثل هذا من الغلط البين أو المغالطة الواضحة (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) هذا، ومن جملة هؤلاء الأكثر من قاس أمر الآخرة على الأولى، ثم زاد هذا الجواب تأييدا وتأكيدا (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) أي ليسوا بالخصلة التي تقربكم عندنا قربى. قال مجاهد: الزلفى القربى والزلفة القربة. قال الأخفش:
زلفى اسم مصدر كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبا فتكون زلفى منصوبة المحل. قال الفراء: إن التي تكون للأموال والأولاد جميعا. وقال الزجاج: إن المعنى وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، ولا أولادكم بالشيء يقربكم عندنا زلفى، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه وأنشد:
نحن بما عندنا وأنت بما عن * دك راض والرأي مختلف ويجوز في غير القرآن باللتين وباللاتي وباللواتي وبالذي للأولاد خاصة: أي لا تزيدكم الأموال عندنا درجة ورفعة ولا تقربكم تقريبا (إلا من آمن وعمل صالحا) هو استثناء منقطع فيكون محله النصب: أي لكن من آمن وعمل صالحا، أو في محل جر بدلا من الضمير في تقربكم، كذا قال الزجاج. قال النحاس: وهذا القول غلط، لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل ولو جاز هذا لجاز رأيتك زيدا. ويجاب عنه بأن الأخفش والكوفيين يجوزون ذلك، وقد قال بمثل قول الزجاج الفراء وأجاز الفراء أن يكون في موضع رفع بمعنى ما هو إلا من آمن، والإشارة بقوله (فأولئك) إلى من، والجمع باعتبار معناها وهو مبتدأ وخبره (لهم جزاء الضعف) أي جزاء الزيادة، وهي المرادة بقوله - من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها - وهو من إضافة المصدر إلى المفعول: أي جزاء