بعضهم لبعض، واختار هذا الفراء والزجاج. ولا وجه لقصر الآية على هذا، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة (أتصبرون) هذا الاستفهام للتقرير، وفي الكلام حذف تقديره أم لا تصبرون: أي أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة والابتلاء العظيم. قيل موقع هذه الجملة الاستفهامية هاهنا موقع قوله - أيكم أحسن عملا - في قوله - ليبلوكم أيكم أحسن عملا - ثم وعد الصابرين بقوله (وكان ربك بصيرا) أي بكل من يصبر ومن لا يصبر، فيجازي كلا منهما بما يستحقه. وقيل معنى أتصبرون: اصبروا مثل قوله - فهل أنتم منتهون - أي انتهوا (وقال الذين لا يرجون لقاءنا) هذه المقالة من جملة شبههم التي قدحوا بها في النبوة، والجملة معطوفة على - وقالوا ما لهذا - أي وقال المشركون الذين لا يبالون بلقاء الله كما في قول الشاعر:
لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما * على أي جنب كان في الله مصرعي أي لا أبالي، وقيل المعنى لا يخافون لقاء ربهم كقول الشاعر:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها * وخالفها في بيت نوب عوامل أي لم يخف، وهي لغة تهامة. قال الفراء وضع الرجاء موضع الخوف، وقيل لا يأملون، ومنه قول الشاعر:
أترجو أمة قتلت حسينا * شفاعة جده يوم الحساب والحمل على المعنى الحقيقي أولى، فالمعنى: لا يأملون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب، ومعلوم أن من لا يرجو الثواب لا يخاف العقاب (لولا أنزل علينا الملائكة) أي هلا أنزلوا علينا فيخبرونا أن محمدا صادق، أو هلا أنزلوا علينا رسلا يرسلهم الله (أو نرى ربنا) عيانا فيخبرنا بأن محمدا رسول. ثم أجاب سبحانه عن شبهتهم هذه فقال (لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) أي أضمروا الاستكبار عن الحق والعناد في قلوبهم كما في قوله - إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه -، والعتو مجاوزة الحد في الطغيان والبلوغ إلى أقصى غاياته، ووصفه بالكبر لكون التكلم بما تكلموا به من هذه المقالة الشنيعة في غاية الكبر والعظم فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى طلبوا إرسال الملائكة إليهم، بل جاوزوا ذلك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه ورؤيته في الدنيا من دون أن يكون بينهم وبينه ترجمان، ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغا هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله، أو تعد من المستعدين له، وهكذا من جهل قدر نفسه، ولم يقف عند حده، ومن جهلت نفسه قدره رأي غيره منه مالا يرى، وانتصاب (يوم يرون الملائكة) بفعل محذوف: أي واذكر يوم يرون الملائكة رؤية ليست على الوجه الذي طلبوه والصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر، وهو يوم ظهورهم لهم عند الموت أو عند الحشر، ويجوز أن يكون انتصاب هذا الظرف بما يدل عليه قوله (لا بشرى يومئذ للمجرمين) أي يمنعون البشرى يوم يرون، أو لا توجد لهم بشرى فيه، فأعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة ، وهو وقت الموت، أو يوم القيامة قد حرمهم الله البشرى. قال الزجاج: المجرمون في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله (ويقولون حجرا محجورا) أي ويقول الكفار عند مشاهدتهم للملائكة حجرا محجورا، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو وهجوم نازلة يضعونها موضع الاستعاذة، يقال للرجل أتفعل كذا؟ فيقول حجرا محجورا: أي حراما عليك التعرض لي. وقيل إن هذا من قول الملائكة: أي يقولون للكفار حراما محرما أن يدخل أحدكم الجنة، ومن ذلك قول الشاعر:
ألا أصبحت أسماء حجرا محرما * وأصبحت من أدنى حمومتها حماء