كما قيل (إنا كذلك نجزي المحسنين) هذه الجملة تعليل لما قبلها من التكرمة لنوح بإجابة دعائه وبقاء الثناء من الله عليه وبقاء ذريته: أي إنا كذلك نجزي من كان محسنا في أقواله وأفعاله راسخا في الاحسان معروفا به، والكاف في كذلك نعت مصدر محذوف: أي جزاء كذلك الجزاء (إنه من عبادنا المؤمنين) هذا بيان لكونه من المحسنين وتعليل له بأنه كان عبدا مؤمنا مخلصا لله (ثم أغرقنا الآخرين) أي الكفرة الذين لم يؤمنوا بالله ولا صدقوا نوحا. ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم وبين أنه ممن شايع نوحا فقال (وإن من شيعته لإبراهيم) أي من أهل دينه وممن شايعه ووافقه على الدعاء إلى الله وإلى توحيده والإيمان به. قال مجاهد: أي على منهاجه وسنته. قال الأصمعي: الشيعة الأعوان وهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد، وقال الفراء: المعنى وإن من شيعة محمد لإبراهيم، فالهاء في شيعته على هذا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا قال الكلبي. ولا يخفى ما في هذا من الضعف والمخالفة للسياق. والظرف في قوله (إذ جاء ربه بقلب سليم) منصوب بفعل محذوف: أي أذكر، وقيل بما في الشيعة من معنى المتابعة. قال أبو حيان: لا يجوز لأن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، وهو إبراهيم، والأولى أن يقال: إن لام الابتداء تمنع ما بعدها من العمل فيما قبلها، والقلب السليم المخلص من الشرك والشك. وقيل هو الناصح لله في خلقه، وقيل الذي يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين: أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته. الثاني عند إلقائه في النار.
وقوله (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون) بدل من الجملة الأولى، أو ظرف لسليم، أو ظرف لجاء، والمعنى:
وقت قال لأبيه آزر وقومه من الكفار: أي شئ تعبدون (أئفكا آلهة دون الله تريدون) انتصاب إفكا على أنه مفعول لأجله، وانتصاب آلهة على أنه مفعول تريدون، والتقدير: أتريدون آلهة من دون الله للإفك، ودون ظرف لتريدون، وتقديم هذه المعمولات للفعل عليه للاهتمام. وقيل انتصاب إفكا على أنه مفعول به لتريدون، وآلهة بدل منه، جعلها نفس الإفك مبالغة، وهذا أولى من الوجه الأول. وقيل انتصابه على الحال من فاعل تريدون: أي أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك. قال المبرد: الإفك أسوأ الكذب، وهو الذي لا يثبت ويضطرب ومنه ائتفكت بهم الأرض (فما ظنكم برب العالمين) أي ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره وما ترونه يصنع بكم؟ وهو تحذير مثل قوله - ما غرك بربك الكريم - وقيل المعنى: أي شئ توهمتموه بالله حتى أشركتم به غيره (فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) قال الواحدي: قال المفسرون: كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم بذلك لئلا ينكروا عليه وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم لتلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه، وأراد أن يتخلف عنهم فاعتل بالسقم: وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم فنظر إلى النجوم يريهم أنه مستدل بها على حاله، فلما نظر إليها قال إني سقيم أي سأسقم. وقال الحسن: إنهم لما كلفوه أن يخرج معهم تفكر فيما يعمل، فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي: أي فيما طلع له منه، فعلم أن كل شئ يسقم (فقال إني سقيم). قال الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في الشئ يدبره: نظر في النجوم.
وقيل كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تعتاده فيها الحمى. وقال الضحاك: معنى إني سقيم:
سأسقم سقم الموت، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت، وهذا تورية وتعريض كما قال للملك لما سأله عن ساره هي أختي: يعنى أخوة الدين. وقال سعيد بن جبير: أشار لهم إلى مرض يسقم ويعدي وهو الطاعون وكانوا يهربون من ذلك، ولهذا قال (فتولوا عنه مدبرين) أي تركوه وذهبوا مخافة العدوي (فراغ إلى آلهتهم) يقال راغ يروغ روغا وروغانا: إذا مال، ومنه طريق رائغ: أي مائل. ومنه قول الشاعر:
فيريك من طرف اللسان حلاوة * ويروغ عنك كما يروغ الثعلب