للناس تحدثا بما أنعم الله به عليه وشكر النعمة التي خصه بها، وقدم منطق الطير لأنها نعمة خاصة به لا يشاركه فيها غيره. قال الفراء: منطق الطير كلام الطير فجعل كمنطق الرجل، وأنشد قول حميد بن ثور:
عجيب لها أن يكون غناؤها * فصيحا ولم يغفر بمنطقها فما ومعنى الآية فهمنا ما يقول الطير. قال جماعة من المفسرين: إنه علم منطق جميع الحيوانات، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جنده يسير معه لتظليله من الشمس. وقال قتادة والشعبي: إنما علم منطق الطير خاصة ولا يعترض ذلك بالنملة فإنها من جملة الطير، وكثيرا ما تخرج لها أجنحة فتطير، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع كلامها وفهمه، ومعنى (وأوتينا من كل شئ) كل شئ تدعو إليه الحاجة: كالعلم والنبوة والحكمة والمال وتسخير الجن والإنس والطير والرياح والوحش والدواب وكل ما بين السماء والأرض. وجاء سليمان بنون العظمة، والمراد نفسه بيانا لحاله من كونه مطاعا لا يخالف، لا تكبرا وتعظيما لنفسه، والإشارة بقوله (إن هذا) إلى ما تقدم ذكره من التعليم والإيتاء (لهو الفضل المبين) أي الظاهر الواضح الذي لا يخفى على أحد، أو المظهر لفضيلتنا (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير) الحشر الجمع: أي جمع له جنوده من هذه الأجناس. وقد أطال المفسرون في ذكر مقدار جنده وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول ولا تصح من جهة النقل، ولو صحت لكان في القدرة الربانية ما هو أعظم من ذلك وأكثر (فهم يوزعون) أي لكل طائفة منهم وزعة ترد أولهم على آخرهم فيقفون على مراتبهم، يقال وزعه يزعه وزعا: كفه، والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم: أي يرده، ومنه قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا * وقلت ألما أصح والشيب وازع وقول الآخر: ومن لم يزعه لبه وحياؤه * فليس له من شيب فوديه وازع وقول الآخر: ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى * من الناس إلا وافر العقل كامله وقيل من التوزيع بمعنى التفريق، يقال: القوم أوزاع: أي طوائف (حتى إذا أتوا على واد النمل) حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام، ويكون غاية لما قبلها، والمعنى فهم يوزعون إلى حصول هذه الغاية وهو إتيانهم على واد النمل: أي فهم يسيرون ممنوعا بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا أتوا الخ، وعلى واد النمل متعلق بأتوا، وعدي بعلى لأنهم كانوا محمولين على الريح فهم مستعلون. والمعنى: أنهم قطعوا الوادي وبلغوا اخره، ووقف القراء جميعهم على واد بدون ياء اتباعا للرسم حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين كقوله - الذين جابوا الصخر بالواد - إلا الكسائي فإنه وقف بالياء، قال: لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل. قال كعب: واد النمل بالطائف. وقال قتادة ومقاتل: هو بالشام (قالت نملة) هذا جواب إذا، أنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت ونبهت سائر النمل منادية لها قائلة (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) جعل خطاب النمل كخطاب العقلاء لفهمها لذلك الخطاب، والمساكن هي الأمكنة التي يسكن النمل فيها.
قيل وهذه النملة التي سمعها سليمان هي أنثى بدليل تأنيث الفعل المسند إليها. ورد هذا أبو حيان فقال: لحاق التاء في قالت لا يدل على أن النملة مؤنثة، بل يصح أن يقال في المذكر قالت، لأن نملة وإن كانت بالتاء فهي مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث بتذكير الفعل ولا بتأنيثه، بل يتميز بالإخبار عنه بأنه ذكر أو أنثى ولا يتعلق بمثل هذا كثير فائدة ولا بالتعرض لاسم النملة ولما ذكر من القصص الموضوعة والأحاديث المكذوبة. وقرأ الحسن وطلحة ومعمر بن سليمان " نملة " والنمل بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة. وقرأ سليمان التيمي بضمتين فيهما