ذلك أن صدور هذا التسبيح هو عن علم قد علمها الله ذلك وألهمها إليه، إلا أن صدوره منها على طريقة الاتفاق بلا روية، وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه وعظيم شأنه، كونه جعلها مسبحة له عالمة بما يصدر منها غير جاهلة له (والله عليم بما يفعلون) هذه الجملة مقررة لما قبلها: أي لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم، ويجوز أن يكون الضمير في " علم " لله سبحانه: أي كل واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته له وتسبيحه إياه والأول أرجح لاتفاق القراء على رفع كل، ولو كان الضمير في علم لله لكان نصب كل أولى. وذكر بعض المفسرين أنها قراءة طائفة من القراء علم على البناء للمفعول. ثم بين سبحانه أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال (ولله ملك السماوات والأرض) أي له لا لغيره (وإليه المصير) لا إلى غيره، والمصير: الرجوع بعد الموت. وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في غير موضع. ثم ذكر سبحانه دليلا آخر من الآثار العلوية، فقال (ألم تر أن الله يزجي سحابا) الإزجاء: السوق قليلا قليلا، ومنه قول النابغة:
إني أتيتك من أهلي ومن وطني * أزجى حشاشة نفس ما بها رمق وقوله أيضا: أسرت عليه من الجوزاء سارية * يزجى السماك عليه جامد البرد والمعنى: أنه سبحانه يسوق السحاب سوقا رقيقا إلى حيث يشاء (ثم يؤلف بينه) أي بين أجزائه، فيضم بعضه إلى بعض ويجمعه بعد تفرقه ليقوى ويتصل ويكثف، والأصل في التأليف الهمز. وقرأ ورش وقالون عن نافع " يولف " بالواو تخفيفا، والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع، ولهذا دخلت بين عليه لأن أجزاءه في حكم المفردات له. قال الفراء: إن الضمير في بينه راجع إلى جملة السحاب، كما تقول الشجر قد جلست بينه، لأنه جمع وأفرد الضمير باعتبار اللفظ (ثم يجعله ركاما) أي متراكما يركب بعضه بعضا. والركم: جمع الشئ، يقال ركم الشئ يركمه ركما: أي جمعه وألقى بعضه على بعض وارتكم الشئ وتراكم إذا اجتمع، والركمة: الطين المجموع، والركام: الرمل المتراكب (فترى الودق يخرج من خلاله) الودق: المطر عند جمهور المفسرين، ومنه قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها * ولا أرض أبقل إبقالها وقال امرؤ القيس:
فدفعهما قد ودق وسح وديمة * وسكب وتوكاف وتنهملان يقال ودقت السحاب فهي وادقة وودق المطر يدق: أي قطر يقطر، وقيل إن الودق البرق، ومنه قول الشاعر: أثرن عجاجة وخرجن منها * خروج الودق من خلل السحاب والأول أولى. ومعنى (من خلاله) من فتوقه التي هي مخارج القطر، وجملة (يخرج من خلاله) في محل نصب على الحال، لأن الرؤية هنا هي البصرية. وقرأ ابن عباس وابن مسعود والضحاك وأبو العالية " من خلله " على الإفراد. وقد وقع الخلاف في خلال، هل هو مفرد كحجاب؟ أو جمع كجبال؟ (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) المراد بقوله من سماء: من عال، لأن السماء قد تطلق على جهة العلو، ومعنى من جبال: من قطع عظام تشبه الجبال، ولفظ فيها في محل نصب على الحال، " ومن " في من برد للتبعيض، وهو مفعول ينزل. وقيل إن المفعول محذوف، والتقدير: ينزل من جبال فيها من برد بردا. وقيل إن من في من برد زائدة، والتقدير: ينزل من السماء من جبال فيها برد. وقيل إن في الكلام مضافا محذوفا: أي ينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من برد إلى الأرض. قال الأخفش: إن من في من جبال وفي من برد زائدة في الموضعين والجبال والبرد في موضع