خلق الإنسان من طين) يعني آدم خلقه من طين فصار على صورة بديعة وشكل حسن (وجعل نسله) أي ذريته (من سلالة) سميت الذرية سلالة لأنها تسل من الأصل وتنفصل عنه، وقد تقدم تفسيرها في سورة المؤمنين، ومعنى (من ماء مهين) من ماء ممتهن لاخطر له عند الناس وهو المني. وقال الزجاج: من ماء ضعيف (ثم سواه) أي الإنسان الذي بدأ خلقه من طين، وهو آدم، أو جميع النوع، والمراد أنه عدل خلقه وسوى شكله وناسب بين أعضائه (ونفخ فيه من روحه) الإضافة للتشريف والتكريم، وهذه الإضافة تقوى أن الكلام في آدم لا في ذريته وإن أمكن توجيهه بالنسبة إلى الجميع. ثم خاطب جميع النوع فقال (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) أي خلق لكم هذه الأشياء تكميلا لنعمته عليكم وتتميما لتسويته لخلقكم حتى تجتمع لكم النعم، فتسمعون كل مسموع وتبصرون كل مبصر، وتتعقلون كل متعقل، وتفهمون كل ما يفهم، وأفرد السمع لكونه مصدرا يشمل القليل والكثير، وخص السمع بذكر المصدر دون البصر والفؤاد فذكرهما بالاسم ولهذا جمعا، لأن السمع قوة واحدة ولها محل واحد وهو الأذن ولا اختيار لها فيه، فإن الصوت يصل إليها ولا تقدر على رده، ولا على تخصيص السمع ببعض المسموعات دون بعض، بخلاف الأبصار فمحلها العين وله فيه اختيار، فإنها تتحرك إلى جانب المرئي دون غيره، وتطبق أجفانها إذا لم ترد الرؤية لشئ، وكذلك الفؤاد له نوع اختيار في إدراكه، فيتعقل هذا دون هذا، ويفهم هذا دون هذا. قرأ الجمهور " وبدأ " بالهمز، والزهري بألف خالصة بدون همز، وانتصاب (قليلا ما تشكرون) على أنه صفة مصدر محذوف: أي شكرا قليلا، أو صفة زمان محذوف: أي زمانا قليلا. وفي هذا بيان لكفرهم لنعم الله وتركهم لشكرها إلا فيما ندر من الأحوال (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض) قد تقدم اختلاف القراء في هذه الهمزة وفي الهمزة التي بعدها، والضلال الغيبوبة، يقال: ضل الميت في التراب إذا غاب وبطل، والعرب تقول للشيء إذا غلب عليه غيره حتى خفي أثره قد ضل. ومنه قول الأخطل:
كنت القذى في موج أكدر مزبد * قذف الأتى بها فضل ضلالا قال قطرب: معنى ضللنا في الأرض: غبنا في الأرض. قرأ الجمهور " ضللنا " بفتح ضاد معجمة ولام مفتوحة بمعنى ذهبنا وضعنا وصرنا ترابا وغبنا عن الأعين. وقرأ يحيى بن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء " ضللنا " بكسر اللام، وهي لغة العالية من نجد. قال الجوهري: وأهل العالية يقولون ضللت بالكسر. قال وأضله: أي أضاعه وأهلكه، يقال ضل الميت إذا دفن. وقرأ علي بن أبي طالب والحسن والأعمش وأبان بن سعيد " صللنا " بصاد مهملة ولام مفتوحة: أي أنتنا. قال النحاس: ولا يعرف في اللغة صللنا، ولكن يقال صل اللحم إذا أنتن.
قال الجوهري: صل اللحم يصل بالكسر صلولا إذا أنتن، مطبوخا كان أو نيئا، ومنه قول الحطيئة:
ذاك فتى يبذل ذا قدرة * لا يفسد اللحم لديه الصلول (أإنا لفي خلق جديد) أي نبعث ونصير أحياء، والاستفهام للاستنكار. وهذا قول منكري البعث من الكفار، فأضرب الله سبحانه من بيان كفرهم بإنكار البعث إلى بيان ما هو أبلغ منه، وهو كفرهم بلقاء الله، فقال (بل هم بلقاء ربهم كافرون) أي جاحدون له مكابرة وعنادا، فإن اعترافهم بأنه المبتدئ للخلق يستلزم اعترافهم بأنه قادر على الإعادة. ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين لهم الحق ويرد عليهم ما زعموه من الباطل، فقال (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) يقال: توفاه الله واستوفى روحه إذا قبضه إليه، وملك الموت هو عزرائيل، ومعنى وكل بكم: وكل بقبض أرواحكم عند حضور آجالكم (ثم إلى ربكم ترجعون) أي تصيرون إليه أحياء بالبعث والنشور لا إلى غيره، فيجازيكم بأعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.