والمعنى: ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة (وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزءون) كاستهزاء قومك بك (فأهلكنا أشد منهم بطشا) أي هلكنا قوما أشد قوة من هؤلاء القوم، وانتصاب بطشا على التمييز أو الحال:
أي باطشين (ومضى مثل الأولين) أي سلف في القرآن ذكرهم غير مرة. وقال قتادة: عقوبتهم، وقيل صفتهم، والمثل الوصف والخبر. وفي هذا تهديد شديد، لأنه يتضمن أن الأولين أهلكوا بتكذيب الرسل، وهؤلاء إن استمروا على تكذيبك والكفر بما جئت به هلكوا مثلهم (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) أي لئن سألت هؤلاء الكفار من قومك من خلق هذه الأجرام العلوية والسفلية أقروا بأن الله خالقهن ولم ينكروا، وذلك أسوأ لحالهم وأشد لعقوبتهم، لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله وجعلوه شريكا له، بل عمدوا إلى مالا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر من المخلوقات وهي الأصنام فجعلوها شركاء لله. ثم وصف سبحانه نفسه بما يدل على عظيم نعمته على عباده وكمال قدرته في مخلوقاته فقال (الذي جعل لكم الأرض مهادا) وهذا كلام مبتدأ غير متصل بما قبله، ولو كان متصلا بما قبله من جملة مقول الكفار لقالوا الذي جعل لنا الأرض مهادا، والمهاد الفراش والبساط، وقد تقدم بيانه، قرأ الجمهور " مهادا " وقرأ الكوفيون " مهدا " (وجعل لكم فيها سبلا) أي طرقا تسلكونها إلى حيث تريدون، وقيل معايش تعيشون بها (لعلكم تهتدون) بسلوكها إلى مقاصدكم ومنافعكم (والذي نزل من السماء ماء بقدر) أي بقدر الحاجة وحسبما تقتضيه المصلحة ولم ينزل عليكم منه فوق حاجتكم حتى يهلك زرائعكم ويهدم منازلكم ويهلككم بالغرق، ولا دونها حتى تحتاجوا إلى الزيادة، وعلى حسب ما تقتضيه مشيئته في أرزاق عباده بالتوسيع تارة والتقتير أخرى (فأنشرنا به بلدة ميتا) أي أحيينا بذلك الماء بلدة مقفرة من النبات. قرأ الجمهور " ميتا " بالتخفيف. وقرأ عيسى وأبو جعفر بالتشديد (كذلك تخرجون) من قبوركم: أي مثل ذلك الإحياء للأرض بإخراج نباتها بعد أن كانت لا نبات بها تبعثون من قبوركم أحياء، فإن من قدر على هذا قدر على ذلك، وقد مضى بيان هذا في آل عمران والأعراف. قرأ الجمهور " تخرجون " مبنيا للمفعول وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر مبنيا للفاعل (والذي خلق الأزواج كلها) المراد بالأزواج هنا الأصناف، قال سعيد بن جبير: الأصناف كلها. وقال الحسن: الشتاء والصيف والليل والنهار والسماوات والأرض والجنة والنار، وقيل أزواج الحيوان من ذكر وأنثى، وقيل أزواج النبات، كقوله - وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج - و - من كل زوج كريم - وقيل ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشر وإيمان وكفر، والأول أولى (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) في البحر والبر: أي ما تركبونه (لتستووا على ظهوره) الضمير راجع إلى ما قاله أبو عبيد. وقال الفراء: أضاف الظهور إلى واحد، لأن المراد به الجنس، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجنس فلذلك ذكر، وجمع الظهر لأن المراد ظهور هذا الجنس والاستواء الاستعلاء: أي لتستعلوا على ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام (ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه) أي هذه النعمة التي أنعم بها عليكم من تسخير ذلك المركب في البحر والبر. وقال مقاتل والكلبي: هو أن يقول الحمد لله الذي رزقني هذا وحملني عليه (وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا) أي ذلل لنا هذا المركب، وقرأ علي بن أبي طالب " سبحان من سخر لنا هذا " قال قتادة: قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم، ومعنى (وما كنا له مقرنين) ما كنا له مطيقين، يقال أقرن هذا البعير: إذا أطاقه. وقال الأخفش وأبو عبيدة: مقرنين ضابطين، وقيل ممائلين من له في القوة، من قولهم هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة، وأنشد قطرب قول عمرو بن معدي كرب: