لا بد في ذلك من الصبر على فعل الطاعة وعلى كف النفس عن الشهوات، أشار إلى فضيلة الصبر وعظيم مقداره فقال (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب) أي يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بغير حساب: أي بما لا يقدر على حصره حاصر، ولا يستطيع حسبانه حاسب. قال عطاء: بما لا يهتدى إليه عقل ولا وصف. وقال مقاتل:
أجرهم الجنة، وأرزاقهم فيها بغير حساب. والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له، لأن كل شئ يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه، وهذه فضيلة عظيمة ومثوبة جليلة تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله، وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفر على الصبر ويزم نفسه بزمامه ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل، ولا يجلب خيرا قد سلب، ولا يدفع مكروها قد وقع، وإذا تصور العاقل هذا حق تصوره وتعقله حق تعقله علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم، وظفر بهذا الجزاء الخطير، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى، ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، فضم إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع، وما أحسن قول من قال:
أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب * فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب هناك يحق الصبر والصبر واجب * وما كان منه للضرورة أوجب ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبرهم بما أمر به من التوحيد والإخلاص فقال (قل إنما أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) أي أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء وغير ذلك. قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما يحملك على الذي أتيتنا به، ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فتأخذ بها؟ فأنزل الله الآية، وقد تقدم بيان معنى الآية في أول هذه السورة (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) أي من هذه الأمة، وكذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم فإنه أول من خالف دين آبائه ودعا إلى التوحيد، واللام للتعليل: أي وأمرت بما أمرت به لأجل أن أكون، وقيل إنها مزيدة للتأكيد، والأول أولى.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (إن تكفروا فإن الله غني عنكم) يعني الكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فيقولون لا إله إلا الله ثم قال (ولا يرضى لعباده الكفر) وهم عباده المخلصون الذين قال - إن عبادي ليس لك عليهم سلطان - فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله وحببها إليهم. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة (ولا يرضى لعباده الكفر) قال: لا يرضى لعباده المسلمين الكفر. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: والله ما رضى الله لعبد ضلالة ولا أمره بها ولا دعا إليها، ولكن رضى لكم طاعته وأمركم بها ونهاكم عن معصيته. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن ابن عمر أنه تلا هذه الآية (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة) قال: ذاك عثمان بن عفان وفي لفظ: نزلت في عثمان بن عفان. وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس في قوله (أمن هو قانت) الآية قال: نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله (يحذر الآخرة) يقول: يحذر عذاب الآخرة. وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس قال " دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رجل وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو وأمنه الذي