(إذ تدعون إلى الإيمان) أكبر من مقتكم أنفسكم إذ عاينتم النار، والظرف في (إذ تدعون) منصوب بمقدر محذوف دل عليه المذكور: أي مقتكم وقت دعائكم، وقيل بمحذوف هو اذكروا، وقيل بالمقت المذكور والمقت أشد البغض: ثم أخبر سبحانه عما يقولون في النار فقال (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) اثنتين في الموضعين نعتان لمصدر محذوف: أي أمتنا إماتتين اثنتين، وأحييتنا احيائتين اثنتين والمراد بالإماتتين: أنهم كانوا نطفا لا حياة لهم في أصلاب آبائهم، ثم أماتهم بعد أن صاروا أحياء في الدنيا، والمراد بالإحيائتين: أنه أحياهم الحياة الأولى في الدنيا، ثم أحياهم عند البعث، ومثل هذه الآية قوله - وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم - وقيل معنى الآية: أنهم أميتوا في الدنيا عند انقضاء آجالهم ثم أحياهم الله في قبورهم للسؤال، ثم أميتوا ثم أحياهم الله في الآخرة ووجه هذا القول أن الموت سلب الحياة ولا حياة للنطفة. ووجه القول الأول أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل، وقد ذهب إلى تفسير الأول جمهور السلف. وقال ابن زيد: المراد بالآية أنه خلقهم في ظهر آدم واستخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم. ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا فقال حاكيا عنهم (فاعترفنا بذنوبنا) التي أسلفناها في الدنيا من تكذيب الرسل والإشراك بالله وترك توحيده، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف، وندموا حيث لا ينفعهم الندم، وقد جعلوا اعترافهم هذا مقدمة لقولهم (فهل إلى خروج من سبيل) أي هل إلى خروج لنا من النار ورجوع لنا إلى الدنيا من سبيل، ومثل هذا قولهم الذي حكاه الله عنهم - فهل إلى مرد من سبيل - وقوله - فارجعنا نعمل صالحا - وقوله - يا ليتنا نرد - الآية. ثم أجاب الله سبحانه عن قولهم هذا بقوله (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم) أي ذلك الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه إذا دعى الله في الدنيا وحده دون غيره كفرتم به وتركتم توحيده (وإن يشرك به) غيره من الأصنام أو غيرها (تؤمنوا) بالإشراك به وتجيبوا الداعي إليه، فبين سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار، وهو ما كانوا فيه من ترك توحيد الله وإشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدعاء، ومحل ذلكم الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر ذلكم أو مبتدأ خبره محذوف: أي ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بذلك السبب، وفي الكلام حذف، والتقدير: فأجيبوا بأن لا سبيل إلى الرد، وذلك لأنكم كنتم إذا دعى الله الخ (فالحكم لله) وحده دون غيره، وهو الذي حكم عليكم بالخلود في النار وعدم الخروج منها و (العلي) المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته ولا صفاته، و (الكبير) الذي كبر عن أن يكون له مثل أو صاحبة أو ولد أو شريك (هو الذي يريكم آياته) أي دلائل توحيده وعلامات قدرته (وينزل لكم من السماء رزقا) يعني المطر فإنه سبب الأرزاق. جمع سبحانه بين إظهار الآيات وإنزال الأرزاق، لأن باظهار الآيات قوام الأديان، وبالأرزاق في قوام الأبدان، وهذه الآيات هي التكوينية التي جعلها الله سبحانه في سماواته وأرضه وما فيهما وما بينهما. وقرأ الجمهور " ينزل " بالتشديد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف (وما يتذكر إلا من ينيب) أي ما يتذكر ويتعظ بتلك الآيات الباهرة فيستدل بها على التوحيد وصدق الوعد والوعيد إلا من ينيب: أي يرجع إلى طاعة الله بما يستفيده من النظر في آيات الله. ثم لما ذكر سبحانه ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له فقال (فادعوا الله مخلصين له الدين) أي إذا كان الأمر كما ذكر من ذلك فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها (ولو كره الكافرون) ذلك، فلا تلتفتوا إلى كراهتهم، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم (رفيع الدرجات) وارتفاع رفيع الدرجات على أنه خبر آخر عن المبتدأ المتقدم: أي هو الذي يريكم آياته، وهو رفيع الدرجات، وكذلك (ذو العرش) خبر ثالث، ويجوز أن يكون رفيع الدرجات مبتدأ، وخبره
(٤٨٤)