لما ذكر سبحانه حال الكفرة من أهل الكتاب ومن المشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من أهل النار اشتد عنادهم، وزاد فسادهم، وسعوا في إيذاء المسلمين بكل وجه فقال الله سبحانه (يا عبادي الذين آمنوا) أضافهم إليه بعد خطابه لهم تشريفا وتكريما، والذين آمنوا صفة موضحة أو مميزة (إن أرضي واسعة إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان، وفي مكايدة للكفار فأخرجوا منها لتتيسر لكم عبادتي وحدي وتتسهل رسول عليكم.
قال الزجاج: أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله، وكذلك يجب على من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته. وقال مطرف بن الشخير:
المعنى إن رحمتي واسعة ورزقي لكم واسع فابتغوه في الأرض. وقيل المعنى: إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة فاعبدون حتى أورثكموها. وانتصاب إياي بفعل مضمر: أي فاعبدوا إياي. ثم خوفهم سبحانه بالموت ليهون عليهم أمر الهجرة فقال (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت لا محالة، فلا يصعب عليكم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان والخلان، ثم إلى الله المرجع بالموت والبعث لا إلى غيره، فكل حي في سفر إلى دار القرار وإن طال لبثه في هذه الدار (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا) في هذا الترغيب إلى الهجرة، وأن جزاء من هاجر أن يكون في غرف الجنة ومعنى " لنبوئنهم " لننزلنهم غرف الجنة، وهي علاليها: فانتصاب غرفا على أنه المفعول الثاني على تضمين نبوتهم معنى ننزلنهم أو على الظرفية مع عدم التضمين، لأن نبوتهم لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. وإما منصوب بنزع الخافض اتساعا: أي في غرف الجنة، وهو مأخوذ من المباءة وهي الإنزال. قرأ أبو عمرو ويعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق وابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف " يا عبادي " بإسكان الياء وفتحها الباقون. وقرأ ابن عامر " إن أرضي " بفتح الياء، وسكنها الباقون. وقرأ السلمي وأبو بكر عن عاصم " يرجعون " بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية. وقرأ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي " لنثوينهم " بالثاء المثلثة مكان الباء الموحدة. وقرأ الباقون بالباء الموحدة، ومعنى لنثوينهم بالمثلثة: لنعطينهم غرفا يثوون فيها من الثوى وهو الإقامة. قال الزجاج: يقال ثوى الرجل: إذا أقام، وأثويته: إذا أنزلته منزلا يقيم فيه. قال الأخفش: لا تعجبني هذه القراءة لأنك لا تقول أثويته الدار، بل تقول في الدار، وليس في الآية حرف جر في المفعول الثاني. قال أبو علي الفارسي: هو على إرادة حرف الجر، ثم حذف كما تقول أمرتك الخير: أي بالخير. ثم وصف سبحانه تلك الغرف فقال (تجري من تحتها الأنهار)