ويقعدون منتظرين لإدراكه وأمثالهم، فلا تدل على المنع من الدخول مع الإذن لغير ذلك، وإلا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بإذنه لغير الطعام، واللازم باطل فالملزوم مثله. قال ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام، والإشارة بقوله (إن ذلكم) إلى الانتظار والاستئناس للحديث، وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور كما في قوله - عوان بين ذلك - أي إن ذلك المذكور من الأمرين (كان يؤذي النبي) لأنهم كانوا يضيقون المنزل عليه وعلى أهله ويتحدثون بما لا يريده. قال الزجاج: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتمل إطالتهم كرما منه فيصبر على الأذى في ذلك، فعلم الله من يحضره الأدب صار أدبا لهم ولمن بعدهم (فيستحيي منكم) أي يستحيي أن يقول لكم قوموا أو اخرجوا (والله لا يستحيي من الحق) أي لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق ولا يمتنع من بيانه وإظهاره والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة. قرأ الجمهور " يستحيي " بياءين، وروي عن ابن كثير أنه قرأ بياء واحدة، وهي لغة تميم يقولون استحى يستحي مثل استقى يستقي، ثم ذكر سبحانه أدبا آخر متعلقا بنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال (وإذا سألتموهن متاعا) أي شيئا يتمتع به، من الماعون وغيره (فاسألوهن من وراء حجاب) أي من وراء ستر بينكم وبينهن. والمتاع يطلق على كل ما يتمتع به، فلا وجه لما قيل من أن المراد به العارية أو الفتوى أو المصحف، والإشارة بقوله (ذلكم) إلى سؤال المتاع من وراء حجاب، وقيل الإشارة إلى جميع ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع، والأول أولى، واسم الإشارة مبتدأ وخبره (أطهر لقلوبكم وقلوبهن) أي أكثر تطهيرا لها من الريبة، وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال. وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) أي ما صح لكم ولا استقام أن تؤذوه بشئ من الأشياء كائنا ما كان، ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه، واللبث فيها على غير الوجه الذي يريده، وتكليم نسائه من دون حجاب (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) أي ولا كان لكم ذلك بعد وفاته لأنهن أمهات المؤمنين، ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات، والإشارة بقوله (إن ذلكم) إلى نكاح أزواجه من بعده (كان عند الله عظيما) أي ذنبا عظيما وخطبا هائلا شديدا، وكان سبب نزول الآية أنه قال قائل: لو قد مات محمد لتزوجنا نساءه، وسيأتي بيان ذلك (إن تبدو شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شئ عليما) يعلم كل شئ من الأشياء، ومن جملة ذلك ما تظهرونه في شأن أزواج رسوله، وما تكتمونه في صدوركم. وفي هذا وعيد شديد، لأن إحاطته بالمعلومات تستلزم المجازاة على خيرها وشرها. ثم بين سبحانه من لا يلزم الحجاب منه فقال (لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا اخوانهن ولا أبناء اخوانهن ولا أبناء أخواتهن) فهؤلاء لا يجب على نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا غيرهن من النساء الاحتجاب منهم، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقال الزجاج: العم والخال ربما يصفان المرأة لولديهما، فإن المرأة تحل لابن العم وابن الخال فكره لهما الرؤية، وهذا ضعيف جدا، فإن تجويز وصف المرأة لمن تحل له ممكن من غيرهما ممن يجوز له النظر إليها، لا سيما أبناء الإخوة وأبناء الأخوات، واللازم باطل فالملزوم مثله، وهكذا يستلزم أن لا يجوز للنساء الأجنبيات أن ينظرن إليها لأنهن يصفنها، واللازم باطل فالملزوم مثله، وهكذا لاوجه لما قاله الشعبي وعكرمة
(٢٩٨)