فأقحمت الأعناق لزيادة التقرير والتصوير، لأن الأعناق موضع الخضوع، وقيل أنها لما وضعت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم ووصفت بما يوصفون به. قال عيسى بن عمر: خاضعين وخاضعة هنا سواء، واختاره المبرد، والمعنى: أنها إذا ذلت رقابهم ذلوا، فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها، ويسوغ في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأول ويخبر عن الثاني، ومنه قول الراجز:
طول الليالي أسرعت في نقضي * طوين طولى وطوين عرضي فأخبر عن الليالي وترك الطول، ومنه قول جرير:
أرى مر السنين أخذن مني * كما أخذ السرار من الهلال وقال أبو عبيد والكسائي: إن المعنى خاضعيها هم، وضعفه النحاس. وقال مجاهد: أعناقهم كبراؤهم. قال النحاس: وهذا معروف في اللغة، يقال جاءني عنق من الناس: أي رؤساء منهم. وقال أبو زيد والأخفش:
أعناقهم جماعاتهم، يقال جاءني عنق من الناس: أي جماعة (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين) بين سبحانه أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين إلى الإيمان يأتيهم بالقرآن حالا بعد حال، وأن لا يجدد لهم موعظة وتذكيرا إلا جددوا ما هو نقيض المقصود، وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء، ومن في " من ذكر " مزيدة لتأكيد العموم، ومن في " من ربهم " لابتداء الغاية، والاستثناء مفرغ من أعم العام محله النصب على الحالية من مفعول يأتيهم، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنبياء (فقد كذبوا) أي بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا صريحا ولم يكتفوا بمجرد الإعراض. وقيل إن الإعراض بمعنى التكذيب، لأن من أعرض عن شئ ولم يقبله فقد كذبه، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح، والأول أولى، فالإعراض عن الشئ عدم الالتفات إليه. ثم انتقلوا عن هذا إلى ما هو أشد منه، وهو التصريح بالتكذيب ثم انتقلوا عن التكذيب إلى ما هو أشد منه، وهو الاستهزاء كما يدل عليه قوله (فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون) والأنباء هي ما يستحقونه من العقوبة آجلا وعاجلا، وسميت أنباء لكونها مما أنبأ عنه القرآن وقال " ما كانوا به يستهزئون " ولم يقل ما كانوا عنه معرضين، أو ما كانوا به يكذبون، لأن الاستهزاء أشد منهما ومستلزم لهما، وفي هذا وعيد شديد، وقد مر تفسير مثل هذا في سورة الأنعام. ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته من الأمور الحسية التي يحصل بها للمتأمل فيها والناظر إليها والمستدل بها أعظم دليل وأوضح برهان، فقال (أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم) الهمزة للتوبيخ، والواو للعطف على مقدر كما في نظائره، فنبه سبحانه على عظمته وقدرته، وأن هؤلاء المكذبين المستهزئين لو نظروا حق النظر لعلموا أنه سبحانه الذي يستحق أن يعبد، والمراد بالزوج هنا الصنف. وقال الفراء: هو اللون. وقال الزجاج: معنى زوج نوع، وكريم، محمود، والمعنى: من كل زوج نافع لا يقدر على إنباته إلا رب العالمين، والكريم في الأصل: الحسن الشريف، يقال نخلة كريمة: أي كثيرة الثمرة، ورجل كريم: شريف فاضل، وكتاب كريم: إذا كان مرضيا في معانيه، والنبات الكريم هو المرضى في منافعه. قال الشعبي: الناس مثل نبات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم، ومن صار منهم إلى النار فهو لئيم، والإشارة بقوله (إن في ذلك لآية) إلى المذكور قبله: أي إن فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدلالة بينة، وعلامة واضحة على كمال قدرة الله سبحانه، وبديع صنعته. ثم أخبر سبحانه بأن أكثر هؤلاء مستمر على ضلالته مصمم على جحوده وتكذيبه واستهزائه فقال (وما كان أكثرهم مؤمنين) أي سبق علمي فيهم أنهم سيكونون هكذا. وقال سيبويه: إن " كان " هنا صلة (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) أي