ما للهدهد لا أراه؟ فهذا الكلام من الكلام المقلوب الذي تستعمله العرب كثيرا، وقيل لا حاجة إلى ادعاء القلب، بل هو استفهام عن المانع له من رؤية الهدهد، كأن قال: مالي لا أراه هل ذلك لساتر يستره عني، أو لشئ آخر؟ ثم ظهر له أنه غائب فقال: أم كان من الغائبين، وأم هي المنقطعة التي بمعنى الإضراب قرأ ابن كثير وابن محيصن وهشام وأيوب " مالي " بفتح الياء، وكذلك قرأوا في يس - ومالي لا أعبد الذي فطرني - بفتح الياء، وقرأ بإسكانها في الموضعين حمزة والكسائي ويعقوب، وقرأ الباقون بفتح التي في يس وإسكان التي هنا. قال أبو عمرو: لأن هذه التي هنا استفهام، والتي في يس نفي، واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه).
اختلفوا في هذا العذاب الشديد ما هو؟ فقال مجاهد وابن جريج: هو أن ينتف ريشه جميعا. وقال يزيد بن رومان: هو أن ينتف ريش جناحيه، وقيل هو أن يحبسه مع أضداده، وقيل أن يمنعه من خدمته، وفي هذا دليل على أن العقوبة على قدر للذنب لا على قدر الجسد. وقوله عذابا اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد كقوله - أنبتكم من الأرض نباتا - (أو ليأتيني بسلطان مبين) قرأ ابن كثير وحده بنون التأكيد المشددة بعدها نون الوقاية، وقرأ الباقون بنون مشددة فقط، وهي نون التوكيد، وقرأ عيسى ابن عمر بنون مشددة مفتوحة غير موصولة بالياء، والسلطان المبين هو الحجة البينة في غيبته (فمكث غير بعيد) أي الهدهد مكث زمانا غير بعيد.
قرأ الجمهور " مكث " بضم الكاف، وقرأ عاصم وحده بفتحها، ومعناه في القرائتين: أقام زمانا غير بعيد. قال سيبويه: مكث يمكث مكوثا كقعد يقعد قعودا. وقيل إن الضمير في مكث لسليمان. والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والتوعد زمانا غير طويل، والأول أولى (فقال أحطت بما لم تحط به) أي علمت ما لم تعلمه من الأمر، والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته، ولعل في الكلام حذفا، والتقدير: فمكث الهدهد غير بعيد فجاء فعوتب على مغيبه، فقال معتذرا عن ذلك (أحطت بما لم تحط به). قال الفراء: ويجوز إدغام التاء في الطاء، فيقال أحط، وإدغام الطاء في التاء فيقال أحت (وجئتك من سبأ بنبأ يقين) قرأ الجمهور من سبأ بالصرف على أنه اسم رجل، نسب إليه قوم، ومنه قول الشاعر:
الواردون وتيم في ذرى سبأ * قد غض أعناقهم جلد الجواميس وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة وترك الصرف على أنه اسم مدينة، وأنكر الزجاج أن يكون اسم الرجل وقال: سبأ اسم مدينة تعرف بمأرب اليمن بينهما وبين صنعاء ثلاثة أيام. وقيل هو اسم امرأة سميت بها المدينة. قال القرطبي: والصحيح أنه اسم رجل كما في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مسيك المرادي. قال ابن عطية:
وخفي هذا على الزجاج فخبط خبط عشواء. وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ فقال:
ما أدري ما هو؟ قال النحاس: وأبو عمرو أجل من أن يقول هذا، قال: والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحي، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود، إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف انتهى.
وأقول: لا شك أن سبأ اسم لمدينة باليمن كانت فيها بلقيس، وهو أيضا اسم رجل من قحطان، وهو سبأ بن