فتعالوا فهذه سنته موجوده في دفاتر الإسلام ودواوينه التي تلقتها جميع هذه الأمة قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر، وهذا كتاب ربنا خالق الكل ورازق الكل وموجد الكل بين أظهرنا موجود في كل بيت، وبيد كل مسلم لم يلحقه تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص ولا تحريف ولا تصحيف، ونحن وأنتم ممن يفهم ألفاظه ويتعقل معانيه، فتعالوا لنأخذ الحق من معدنه ونشرب صفو الماء من منبعه، فهو أهدى مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا: لا سمع ولا طاعة، إما بلسان المقال أو بلسان الحال، فتدبر هذا وتأمله إن بقي فيك بقية من إنصاف وشعبة من خير ومزعة من حياء وحصة من دين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد أوضحت هذا غاية الإيضاح في كتابي الذي سميته " أدب الطلب ومنتهى الأرب " فارجع إليه إن رمت أن تنجلي عنك ظلمات التعصب وتتقشع لك سحائب التقليد (فانتقمنا منهم) وذلك الانتقام ما أوقعه الله بقوم نوح وعاد وثمود (فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) من تلك الأمم فإن آثارهم موجودة (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه) أي واذكر لهم وقت قوله لأبيه وقومه الذين قلدوا آباءهم وعبدوا الأصنام (إنني براء مما تعبدون) البراء مصدر نعت به للمبالغة، وهو يستعمل للواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث. قال الجوهري: وتبرأت من كذا وأنا منه براء وخلاء، ولا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر في الأصل، ثم استثنى خالقه من البراءة فقال (إلا الذي فطرني) أي خلقني (فإنه سيهدين) سيرشدني لدينه ويثبتني على الحق، والاستثناء إما منقطع: أي لكن الذي فطرني، أو متصل من عموم ما، لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، وإخباره بأنه سيهديه جزما لثقته بالله سبحانه وقوة يقينه (وجعلها كلمة باقية في عقبة) الضمير في جعلها عائد إلى قوله (إلا الذي فطرني) وهي بمعنى التوحيد كأنه قال: وجعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم وهم ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله سبحانه، وفاعل جعلها إبراهيم، وذلك حيث وصاهم بالتوحيد وأمرهم بأن يدينوا به كما في قوله - وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب - الآية، وقيل الفاعل هو الله عز وجل: أي وجعل الله عز وجل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم، والعقب من بعد. قال مجاهد وقتادة:
الكلمة لا إله إلا الله لا يزال من عقبى من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال عكرمة: هي الإسلام. قال ابن زيد:
الكلمة هي قوله - أسلمت لرب العالمين - وجملة (لعلهم يرجعون) تعليل للجعل: أي جعلها باقية رجاء أن يرجع إليها من يشرك منهم بدعاء من يوحد. وقيل الضمير في لعلهم راجع إلى أهل مكة: أي لعل أهل مكة يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم. وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها الخ. قال السدي: لعلهم يتوبون، فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله. ثم ذكر سبحانه نعمته على قريش ومن وافقهم من الكفار المعاصرين لهم فقال (بل متعت هؤلاء وآبائهم) أضرب عن الكلام الأول إلى ذكر ما متعهم به من الأنفس والأهل والأموال وأنواع النعم وما متع به آباءهم ولم يعاجلهم بالعقوبة، فاغتروا بالمهلة وأكبوا على الشهوات (حتى جاءهم الحق) يعني القران (ورسول مبين) يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى مبين ظاهر الرسالة واضحها، أو مبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين فلم يجيبوه ولم يعملوا بما أنزل عليه. ثم بين سبحانه ما صنعوه عند مجيء الحق فقال (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) أي جاحدون، فسموا القرآن سحرا وجحدوه، واستحقروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) المراد بالقريتين مكة والطائف، وبالرجلين الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف كذا قال قتادة وغيره. وقال مجاهد وغيره: عتبة بن ربيعة من مكة وعمير بن عبد يا ليل الثقفي من الطائف، وقيل غير ذلك. وظاهر النظم أن المراد رجل من إحدى القريتين عظيم الجاه واسع المال مسود في قومه