يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى، وهو تمثيل بحال الملك المحتجب الذي يكلم خواصه من وراء حجاب (أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) أي يرسل ملكا، فيوحي ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحي إليه. قال الزجاج: المعنى أن كلام الله للبشر: إما أن يكون بإلهام يلهمهم، أو يكلمهم من وراء حجاب كما كلم موسى، أو برسالة ملك إليهم. وتقدير الكلام: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحى وحيا، أو يكلمه من وراء حجاب أو يرسل رسولا. ومن قرأ " يرسل " رفعا أراد وهو يرسل، فهو ابتداء واستئناف.
قرأ الجمهور بنصب " أو يرسل " وبنصب " فيوحى " على تقدير أن، وتكون أن وما دخلت عليه معطوفين على وحيا، ووحيا في محل الحال، والتقدير: إلا موحيا أو مرسلا، ولا يصح عطف أو يرسل على أن يكلمه لأنه يصير التقدير: وما كان لبشر أن يرسل الله رسولا، وهو فاسد لفظا ومعنى. وقد قيل في توجيه قراءة الجمهور غير هذا مما لا يخلو عن ضعف. وقرأ نافع " أو يرسل " بالرفع، وكذلك " فيوحى " بإسكان الياء على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: أو هو يرسل كما قال الزجاج وغيره، وجملة (إنه علي حكيم) تعليل لما قبلها: أي متعال عن صفات النقص، حكيم في كل أحكامه.
قال المفسرون: سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى، فنزلت (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) أي وكالوحي الذي أوحينا إلى الأنبياء قبلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، المراد به القران، وقيل النبوة. قال مقاتل: يعني الوحي بأمرنا ومعناه القران، لأنه يهتدى به، ففيه حياة من موت الكفر. ثم ذكر سبحانه صفة رسوله قبل أن يوحى إليه فقال (ما كنت تدري ما الكتاب) أي أي شئ هو، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب وذلك أدخل في الإعجاز وأدل على صحة نبوته، ومعنى (ولا الإيمان) أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يعرف تفاصيل الشرائع ولا يهتدي إلى معالمها، وخص الإيمان لأنه رأسها وأساسها، وقيل أراد بالإيمان هنا الصلاة. قال بهذا جماعة من أهل العلم: منهم إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، واحتج بقوله تعالى - وما كان الله ليضيع إيمانكم - يعني الصلاة، فسماها إيمانا. وذهب جماعة إلى أن الله سبحانه لم يبعث نبيا إلا وقد كان مؤمنا به، وقالوا معنى الآية: ما كنت تدري قبل الوحي كيف تقرأ القرآن ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان، وقيل كان هذا قبل البلوغ حين كان طفلا وفي المهد. وقال الحسين بن الفضل: إنه على حذف مضاف: أي ولا أهل الإيمان، وقيل المراد بالإيمان دين الإسلام، وقيل الإيمان هنا عبارة عن الإقرار بكل ما كلف الله به العباد (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء) أي ولكن جعلنا الروح الذي أوحيناه إليك ضياء ودليلا على التوحيد والإيمان نهدي به من نشاء هدايته (من عبادنا) ونرشده إلى الدين الحق (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) قال قتادة والسدي ومقاتل:
وإنك لتدعو إلى الإسلام، فهو الصراط المستقيم. قرأ الجمهور " لتهدي " على البناء للفاعل. وقرأ ابن حوشب على البناء للمفعول. وقرأ ابن السميفع بضم التاء وكسر الدال من أهدى، وفي قراءة أبي " وإنك لتدعو " ثم بين الصراط المستقيم بقوله (صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) وفي هذه الإضافة للصراط إلى الاسم الشريف من التعظيم له والتفخيم لشأنه مالا يخفى، ومعنى (له ما في السماوات وما في الأرض) أنه المالك لذلك والمتصرف فيه (ألا إلى الله تصير الأمور) أي تصير إليه يوم القيامة لا إلى غيره جميع أمور الخلائق، وفيه وعيد بالبعث المستلزم للمجازاة.