ثم ذكر سبحانه افتقار خلقه إليه، ومزيد حاجتهم إلى فضله، فقال (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) أي المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا، فهم الفقراء إليه على الإطلاق و (هو الغني) على الإطلاق (الحميد) أي المستحق للحمد من عباده بإحسانه إليهم. ثم ذكر سبحانه نوعا من الأنواع التي يتحقق عندها افتقارهم إليه واستغناؤه عنهم فقال (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) أي إن يشأ يفنكم ويأت بدلكم بخلق جديد يطيعونه ولا يعصونه، أو يأت بنوع من أنواع الخلق وعالم من العالم غير ما تعرفون (وما ذلك) إلا ذهاب لكم والإتيان بآخرين (على الله بعزيز) أي بممتنع ولا متعسر، وقد مضى تفسير هذا في سورة إبراهيم (ولا تزر وازرة وزر أخرى) أي نفس وازرة فحذف الموصوف للعلم به، ومعنى تزر: تحمل. والمعنى: لا تحمل نفس حمل نفس أخرى:
أي إثمها بل كل نفس تحمل وزرها، ولا تخالف هذه الآية قوله - وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم - لأنهم إنما حملوا أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، والكل من أوزارهم، لا من أوزار غيرهم، ومثل هذا حديث " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فإن الذي سن السنة السيئة إنما حمل وزر سنته السيئة، وقد تقدم الكلام على هذه الآية مستوفى (وإن تدع مثقلة إلى حملها) قال الفراء: أي نفس مثقلة، قال: وهذا يقع للمذكر والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها، وهو ذنوبها (لا يحمل منه) أي من حملها (شئ ولو كان ذا قربى) أي ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة لها، لم يحمل من حملها شيئا. ومعنى الآية:
وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسا أخرى إلى حمل شئ من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئا، ولو كانت قريبة لها في النسب، فكيف بغيرها مما لا قرابة بينها وبين الداعية لها؟ وقرئ " ذو قربى " على أن كان تامة، كقوله - وإن كان ذو عسرة - وجملة (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب) مستأنفة مسوقة لبيان من يتعظ بالإنذار، ومعنى (يخشون ربهم بالغيب) أنه يخشونه حال كونهم غائبين عن عذابه أو يخشون عذابه وهو غائب عنهم، أو يخشونه في الخلوات عن الناس. قال الزجاج: تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم، فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار، كقوله - إنما أنت منذر من يخشاها - وقوله - إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب - ومعنى (وأقاموا الصلاة) أنهم احتفلوا بأمرها، ولم يشتغلوا عنها بشئ مما يلهيهم (ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه) التزكي: التطهر من أدناس الشرك والفواحش، والمعنى: أن من تطهر بترك المعاصي واستكثر من العمل الصالح فإنما يتطهر لنفسه، لأن نفع ذلك مختص به كما أن وزر من تدنس لا يكون إلا عليه لا على غيره. قرأ الجمهور " ومن تزكى فإنما يتزكى " وقرأ أبو عمرو " فإنما يزكى " بإدغام التاء في الزاي وقرأ ابن مسعود وطلحة " ومن أزكى فإنما يزكى " (وإلى الله المصير) لا إلى غيره، ذكر سبحانه أولا أنه لا يحمل أحد ذنب أحد، ثم ذكر ثانيا أن المذنب إن دعا غيره ولو كان من قرابته إلى حمل شئ من ذنوبه لا يحمله، ثم ذكر ثالثا أن ثواب الطاعة مختص بفاعلها ليس لغيره منه شئ. ثم ضرب مثلا للمؤمن والكافر فقال (وما يستوي الأعمى) أي المسلوب حاسة البصر (والبصير) الذي له ملكة البصر، فشبه الكافر بالأعمى، وشبه المؤمن بالبصير (ولا الظلمات ولا النور) أي ولا تستوي الظلمات ولا النور، فشبه الباطل بالظلمات، وشبه الحق بالنور. قال الأخفش: ولا في قوله " ولا النور، ولا الحرور " زائدة، والتقدير وما يستوي الظلمات والنور ولا الظل والحرور، والحرور شدة حر الشمس. قال الأخفش: والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار،