يسرعون، وبين النفختين أربعون سنة. وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي حيث قال " ونفخ " تنبيها على تحقق وقوعه كما ذكره أهل البيان، وجعلوا هذه الآية مثالا له، والصور بإسكان الواو: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل كما وردت بذلك السنة، وإطلاق هذا الاسم على القرن معروف في لغة العرب، ومنه قول الشاعر:
نحن نطحناهم غداة الغورين * نطحا شديدا لا كنطح الصورين أي القرنين. وقد مضى هذا مستوفى في سورة الأنعام. وقال قتادة: الصور جمع صورة: أي نفخ في الصور الأرواح، والأجداث جمع جدث وهو القبر. وقرئ " الأجداف " بالفاء وهي لغة، واللغة الفصيحة بالثاء المثلثة والنسل والنسلان: الإسراع في السير، يقال نسل ينسل كضرب يضرب، ويقال ينسل بالضم، ومنه قول امرئ القيس: * فسلي ثيابي من ثيابك تنسل *. وقول الآخر:
عسلان الذيب أمسى قارنا * برد الليل عليه فنسل قالوا (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) أي قالوا عند بعثهم من القبور بالنفخة يا ويلنا: نادوا ويلهم، كأنهم قالوا له أحضر فهذا أوان حضورك، وهؤلاء القائلون هم الكفار. قال ابن الأنباري: الوقف على يا ويلنا وقف حسن.
ثم يبتدئ الكلام بقوله (من بعثنا من مرقدنا) ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول، وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياما. قرأ الجمهور " يا ويلنا " وقرأ ابن أبي ليلى " يا ويلتنا " بزيادة التاء. وقرأ الجمهور " من بعثنا " بفتح ميم من على الاستفهام. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرف جر، ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب. وعلى هذه القراءة تكون من متعلقة بالويل، وقرأ الجمهور " من بعثنا ". وفي قراءة أبي " من أهبنا " من هب من نومه: إذا انتبه، وأنشد ثعلب على هذه القراءة:
وعاذلة هبت بليل تلومني * ولم يعتمدني قبل ذاك عذول وقيل إنهم يقولون ذلك إذا عاينوا جهنم. وقال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية، وجملة (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) جواب عليهم من جهة الملائكة، أو من جهة المؤمنين. وقيل هو من كلام الكفرة يجيب به بعضهم على بعض. قال بالأول الفراء.
وبالثاني مجاهد. وقال قتادة: هي من قول الله سبحانه، و " ما " في قوله (ما وعد الرحمن) موصولة وعائدها محذوف والمعنى: هذا الذي وعده الرحمن، وصدق فيه المرسلون قد حق عليكم، ونزل بكم، ومفعولا الوعد والصدق محذوفان: أي وعدكموه الرحمن وصدقكموه المرسلون، والأصل وعدكم به، وصدقكم فيه، أو وعدناه الرحمن.
وصدقناه المرسلون على أن هذا من قول المؤمنين، أو من قول الكفار (إن كانت إلا صيحة واحدة) أي ما كانت تلك النفخة المذكورة إلا صيحة واحدة صاحها إسرافيل بنفخة في الصور (فإذا هم جميع لدينا محضرون) أي فإذا هم مجموعون محضرون لدينا بسرعة للحساب والعقاب (فاليوم لا تظلم نفس) من النفوس (شيئا) مما تستحقه:
أي لا ينقص من ثواب عملها شيئا من النقص، ولا تظلم فيه بنوع من أنواع الظلم (ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) أي إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا، أو إلا بما كنتم تعملونه: أي بسببه، أو في مقابلته.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله (أنا حملنا ذرياتهم) الآية قال: في سفينة نوح حمل فيها من كل زوجين اثنين (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) قال: السفن التي في البحر والأنهار التي يركب الناس فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي صالح نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن