الأسفلين) الكيد: المكر والحيلة: أي احتالوا لإهلاكه فجعلناهم الأسفلين المقهورين المغلوبين، لأنها قامت له بذلك عليهم الحجة التي لا يقدرون على دفعها ولا يمكنهم جحدها، فإن النار الشديدة الاتقاد العظيمة الاضطرام المتراكمة الجمار إذا صارت بعد إلقائه عليها بردا وسلاما، ولم تؤثر فيه أقل تأثير كان ذلك من الحجة بمكان يفهمه كل من له عقل، وصار المنكر له سافلا ساقط الحجة ظاهر التعصب واضح التعسف، وسبحان من يجعل المحن لمن يدعو إلى دينه منحا، ويسوق إليهم الخير بما هو من صور الضير. ولما انقضت هذه الوقعة وأسفر الصبح لذي عينين، وظهرت حجة الله لإبراهيم، وقامت براهين نبوته، وسطعت أنوار معجزته (قال إني ذاهب إلى ربي) أي مهاجر من بلد قومي الذين فعلوا ما فعلوا تعصبا للأصنام وكفرا بالله وتكذيبا لرسله إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه.
أو إلى حيث أتمكن من عبادته (سيهديني) أي سيهديني إلى المكان الذي أمرني بالذهاب إليه، أو إلى مقصدي.
قيل إن الله سبحانه أمره بالمسير إلى الشام، وقد سبق بيان هذا في سورة الكهف مستوفى. قال مقاتل: فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال (رب هب لي من الصالحين) أي ولدا صالحا من الصالحين يعينني على طاعتك ويؤنسني في الغربة هكذا قال المفسرون، وعللوا ذلك بأن الهبة قد غلب معناها في الولد، فتحمل عند الاطلاق عليه، وإذا وردت مقيدة حملت على ما قيدت به كما في قوله - ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا - وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد فقوله (فبشرناه بغلام حليم) يدل على أنه ما أراد بقوله (رب هب لي من الصالحين) إلا الولد، ومعنى حليم: أن يكون حليما عند كبره، فكأنه بشر ببقاء ذلك الغلام حتى يكبر ويصير حليما، لأن الصغير لا يوصف بالحلم. قال الزجاج: هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر: وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم (فلما بلغ معه السعي) في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة والتقدير: فوهبنا له الغلام فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه. قال مجاهد:
(فلما بلغ معه السعي) أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم. وقال مقاتل: لما مشى معه. قال الفراء: كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة. وقال الحسن: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة. وقال ابن زيد: هو السعي في العبادة، وقيل هو الاحتلام (قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ: إني رأيت في المنام هذه الرؤيا. قال مقاتل: رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات. قال قتادة: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئا فعلوه.
وقد اختلف أهل العلم في الذبيح؟ هل هو إسحاق أو إسماعيل. قال القرطبي: فقال أكثرهم: الذبيح إسحاق وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله، وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود، ورواه أيضا عن جابر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعمر بن الخطاب، قال: فهؤلاء سبعة من الصحابة. قال: ومن التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي برزة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس كلهم قالوا الذبيح إسحاق، وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى، واختاره غير واحد، منهم النحاس وابن جرير الطبري وغيرهما. قال وقال آخرون: هو إسماعيل، وممن قال بذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضا، ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة، وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة. قال ابن كثير في تفسيره: وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكى ذلك عن طائفة من السلف